هيروشيما تعيش ذكري أسوأ يوم في تاريخها
140 ألف شخص ضحية لعملية الولد الصغير في هيروشيما
رسالة هيروشيما : أمنية نصر
يحتفل العالم اليوم بذكري أكثر الجرائم وحشية وترويعا بحق الإنسانية.. كان صباح يوم الاثنين مشرقا وصافيا بلا أي سحب, ولم يعكر صفو مدينة هيروشيما اليابانية سوي بعض الطلعات الجوية للطيران الحربي الأمريكي لتنطلق صفارات الإنذار في أنحاء المدينة, وليهرول السكان إلي المخابئ الأرضية, ويستمر الحال هكذا حتي الساعة السابعة والنصف ليعود بعدها السكان إلي مساكنهم, فمنهم من ذهب إلي عمله, وتوجه الطلاب إلي جامعاتهم ومدارسهم, وبقي الأطفال مع عائلاتهم في المنازل.
استيقظ نحو350 ألف نسمة, هم سكان مدينة هيروشيما المطلة علي خليج هونشو, علي أصوات السفن الراسية في الخليج, وبينما الحال هكذا, كانت هناك قاذفة أمريكية من طراز بي29 أطلق عليها اسم اينولا جاي تقترب من الخليج الهادئ, ويتحدث قائدها الكابتن بول تيبيتس مع القيادة العليا ليتلقي الأوامر النهائية بتنفيذ العملية السرية التي أطلق عليها اسم الولد الصغير, وفي تمام الساعة الثامنة والربع صباحا في مثل هذا اليوم منذ62 عاما استعد طاقم القاذفة لتنفيذ المهمة, إذ أبلغه قادته بموقع التنفيذ, وكانت مدينة هيروشيما البائسة في هذه اللحظات علي موعد مع الموت, بعدما سقطت عليها القنبلة الذرية الأولي.
عملية الولد الصغير حولت مدينة هيروشيما الجميلة, التي كانت مصدر فخر سكانها, إلي كتلة من اللهب, مما أدي إلي مصرع ما يقرب من140 ألف شخص, بينهم8 آلاف طالب وطالبة.
هذه العملية التي تحل ذكراها علي العالم اليوم تذكره بأكثر الجرائم وحشية وترويعا بحق الإنسانية, أدت إلي اندفاع كتل نار إلي أعلي الخليج بسرعة360 قدم/ ثانية, ولتتحول هذه الكتل البيضاء في لمح البصر إلي اللون البرتقالي ثم الأحمر, وما لبث أن هدأت النيران التي اندفعت كشلال هائج حتي ظهرت غيمة علي شكل فطر عيش الغراب مكونة من غبار بارتفاع30 ألف قدم, وكان الدمار كله تحت هذه الغيمة,حيث بقيت شظايا زجاجية مشعة باليورانيوم المشع خلفتها حرارة الانفجار.
هذا الانفجار الأضخم في التاريخ تولدت عنه كرات نارية بمركز وصلت درجة حرارته إلي عدة ملايين من الدرجات, وكان للإشعاعات الحرارية التي انطلقت في جميع الاتجاهات تأثير قوي علي الأرض لعدة ثوان, وبلغت حرارة المركز ما بين3000 و4000 درجة مئوية( الحديد ينصهر عند درجة1536 درجة), وأدت درجة الحرارة الشديدة إلي احتراق وصلات السكك الحديدية والسياجات الخشبية علي جانبي الطرق لأكثر من كيلومترين من مركز الانفجار, واحترقت الأشجار وتفحمت تماما.
وعلاوة علي الدمار المادي في الممتلكات, فإن نتائجه الاجتماعية لم تتضح تماما إلا بعد فترة, إذ أحس السكان بأن الحياة لن تعود لمدينتهم الهادئة, وأنه من الصعب إعادة تعمير وبناء المدينة, وسرت شائعة بأن النباتات لن تنمو قبل75 عاما بسبب الإشعاعات.
في هذا اليوم وخلال لحظات قليلة فقد العديد من الأشخاص أحباءهم وأصدقاءهم, وتفرقت الأسر الهانئة, ومن أسعده حظه وكتبت له النجاة بقي يعاني ندوبا وجروحا جسدية ونفسية, بالإضافة إلي مخاوف شتي من احتمال الإصابة بأمراض سرطانية ظلت تؤرقهم ليل نهار.
حديث الآلام
لازلت أشم رائحة الشعر المحترق ممتزجة بصرخات العديد من الأشخاص, وأصوات بكاء الأطفال صارخين علي أمهاتهم لإنقاذهم من نيران مستعرة تأكل أجسادهم الضعيفة, غير مدركين أن معظمهم قد تحولوا إلي أيتام.. هكذا تتذكر كيكو أوجورا(70 عاما) مشاهد هذا اليوم عندما كانت طفلة في الثامنة من عمرها حين هاجمت قاذفة الاينولا جاي هيروشيما, بسبب رغبة سيطرت علي الرئيس الأمريكي ترومان لإظهار الولايات المتحدة كقوة عظمي, لا تستطيع أقوي الإمبراطوريات العسكرية في ذلك الوقت الصمود أمامها.
أوجورا هي إحدي الناجيات من الرغبة المدمرة للرئيس الأمريكي ترومان, وتحدثت إلي الأهرام هي وناج آخر يدعي سوناي تسوبوي.
تستعيد أوجورا ذكرياتها وتقول: كان يوما صحوا أردت فيه الذهاب إلي المدرسة, غير أن والدي أصر علي بقائي في المنزل, وقال: أشعر بأن مكروها سيحدث.. ابقي معنا, شعرت أوجورا في البداية بأن والدها يهول الأمور, غير أنها أدركت بعد ساعات من هذا ببعد نظر الوالد: ولكني لم أكن أدري أنه قد أنقذني من موت محقق, فطوال أيام مضت كنا نري قاذفة الصواريخ تجوب سماء المدينة دون أي أضرار, ولم يكن ليساورنا شك بأن هذه الطلعات هدفها الأول, بالإضافة لاستعراض القوة, هو تحديد المكان الأفضل الذي يسبب الضرر الأكبر للمدينة.
وتروي كيكو أوجورا الناجية من جحيم القنبلة الذرية قائلة: بقيت في المنزل بناء علي رغبة والدي, وبقيت ألعب علي التلة الصغيرة حتي أغشي بصري ضوء ساطع شديد البياض يميل إلي الزرقة بعض الشيء, تبعه صوت انفجار رهيب يصاحبه غبار كثيف, وياليت الأمر توقف عند الانفجار, شدة الانفجار قذفتني بعيدا عن المنزل وارتطمت بقوة علي الأرض, وبعد لحظات أفقت من هول الصدمة, لم أفكر سوي بمنزلي كملجأ لي للاحتماء من المباني المحطمة والأشجار التي أخذت تتساقط فوق رأسي, وبرغم يقيني بقربي من المنزل فإنني لم أستطع الوصول إليه, وفي وسط رياح عاصفة وظلام دامس.. كان أمرا غريبا, لأن الساعة لم تكن تتجاوز الثامنة والنصف صباحا أبدا.
الانفجار والصدمة لم يمنعا أوجورا من سماع صوت بكاء اخوتها الصغار, وحاولت الركض باتجاه المنزل, ولكن فجأة أمسكت بقدميها أيد لزجة ساخنة, ارتعبت وخافت كثيرا لكنها نسيت خوفها حين طلب منها هذا الصوت شربة ماء تبعته أصوات أخري ترجوها تقديم المساعدة نفسها, أي شربة الماء.
ركضت باتجاه المنزل وأتيت بالمياه للجرحي, شكرني بعضهم, لكن البعض الآخر ما إن شربوا المياه حتي أخذوا يتقيأون دما وماتوا علي مشهد مني..
كان من الطبيعي أن يتملك الطفلة أوجورا إحساس رهيب بالذنب, وبأنها قتلت الذين طلبوا مساعدتها بشربة ماء, وفي المساء جاء والدها الذي كان مشغولا مع نفر قليل من الرجال بإسعاف الجرحي ودفن الموتي, وقال لهم محذرا: إياكم وإعطاء الجرحي المياه, فقد سمعت أن بعضهم قد مات بعد أن تمت سقايتهم, وتوجه الوالد إلي العائلة بسؤال واحد محدد تتذكره أوجورا جيدا وهو: هل هناك من أفراد عائلتي من قدم المياه لهؤلاء الجرحي؟, نفي الجميع ولاذت الطفلة بالصمت ولم تستطع أبدا إعلان الحقيقة التي ظلت تؤرقها لسنوات عديدة حتي مات والدها.
وفي أسي وحزن تقول الناجية من عذاب القنبلة: مازلت أتذكر مشاهد طوابير طويلة يغلفها صمت ثقيل من اللاجئين يشبهون شخصيات الموتي الأحياء كما في أفلام الرعب, وقد مد العديد منهم أيديهم وتدلي الجلد من أيديهم, وغطت الدماء الأجساد.
أما عن الدمار المادي فحدث ولا حرج, تواصل أوجورا سرد ذكرياتها عن هذا اليوم اللعين, وتواصل كلامها وكأن الحدث كان منذ دقائق عديدة: الدمار الذي أوجدته القنبلة كان شديدا, فعلي الرغم من أن المسافة التي تفصل منزلي عن مركز القنبلة تجاوزت الكيلومترين, فإنني لم أجد سوي مبنيين فقط من مباني المدينة العديدة غير مدمرين, وبعد ساعات أخذت تتساقط علينا قطرات من مطر أسود ثقيل يشبه الشحم, وكأن القنبلة لم تكن تكفينا.
وتستطرد أوجورا: رأيت مشاهد أكثر بشاعة, حيث بدأت أسراب من ذباب هائل الحجم في مهاجمة جثث الضحايا, كما شاهدت المئات من الضحايا يحاولون جاهدين دفع الذباب عن جروحهم, ولم يدر بخلد أوجورا أن القنبلة التي تعرضت لها مدينتها ستكون لها آثار مدمرة أخري بعد مضي عامين كاملين فتقول: فوجئ الكثيرون بأن أشخاصا غير مصابين ظاهريا يعانون أعراضا أصيب بها أشخاص تعرضوا لإشعاع مباشر نتج عن تفجير القنبلة, إذ عرف السكان للمرة الأولي في عام1947 معلومات عما يعرف بالإشعاع الذري, وبدأت عربات الإسعاف تأخذ الناجين كل فترة وأخري لفحص دوري, وهنا شعرت كيكو أوجورا بخوف دائم, فعلي الرغم من النتيجة السلبية للفحص فإنها كانت تشعر مثل الآخرين بأن السرطان سيهاجمها في يوم ما.
السيد تسوبوي التقط أطراف الحديث من السيدة أوجورا وبدأ يروي قصته, أو بالأحري مأساته, قائلا: كنت علي بعد كيلومتر واحد من مركز الانفجار في طريقي للذهاب إلي الجامعة, تعصف بي أفكار شتي عن حالة اليابان العسكرية, فقد كانت تصلنا أنباء عن خسائر الجيش, ومضيت أفكر عما يخبئه القدر لنا في الأيام المقبلة.
ووسط أفكاره ومشاهده عن الحرب, يواصل السيد تسوبوي, الذي كان يبلغ عامه العشرين آنذاك: أحسست بضوء ساطع استغرق ثواني معدودة, وقوة شيطانية هائلة تقذف بي لمسافة10 أمتار, بعدها غرقت في ظلام دامس, وحين أفقت أحسست بآلام مبرحة, ورأيت يدي وقد احترقت تماما, والدماء تنزف بغزارة من وجهي, وملابسي تحرقني, شل تفكيري ولم أستطع نزع ملابسي, فبدأت الركض, ورأيت أناسا شبه أحياء وآخرين قد تفحموا تماما.
تجاعيد وجه تسوبوي لم تنجح في إخفاء مشاعره وغضبه, وهو يحكي مأساته: لقد شاهدت أمهات يحتضن أطفالهن وماتوا معا, وقد التحمت أجسادهم, وارتسمت علي الوجوه علامات الرعب والألم, مشاهد ما بعد الانفجار لم تبرح ذاكرة تسوبوي, خاصة مشهد فتاة صغيرة بملابس المدرسة وقد تدلت مقلتاها علي خديها, وآخرون يحاولون جاهدين الضغط علي أمعائهم حتي لا تخرج من أجسادهم. يقول لقد أحسست بالقلق علي والدتي, وتساءلت: كيف هي الآن؟ هل تعاني في صمت؟ هل ماتت؟ ووسط هذه المشاعر ملأني غضب عارم أنساني جروحي وحروقي العديدة, فلم أفكر سوي بالانتقام.
وهنا بدأ تسوبوي في الاقتراب من مركز الانفجار ولم يخف شعوره بالخوف: هالني ازدياد كبير في عدد الجثث, وتملكتني فكرة واحدة, هي أن مدينتي الحبيبة تموت, وقتها اضطررت للقيام بعمل لن أنساه أبدا, فقد دست علي جثث الضحايا لأنجو بنفسي من موت محقق.
المؤلم في حياة الناجين هو تحطم إنسانيتهم.. يقول تسوبوي, ويواصل: فالقنابل الذرية هي شر مطلق لا تتسامح مع البشر, وهنا يحذر تسوبوي العالم من مغبة اندلاع أي حرب نووية, فهي ستأكل الأخضر واليابس, ولن ترحم وستقضي علي البشرية, وستكون أضرارها ومخاطرها أضعاف ما شاهدناه في هيروشيما, ولن يحقق أحد أي انتصار, لأن الكل سيكون خاسرا بالتأكيد.
تحذير تسوبوي يستببعه نصيحة للجميع: المسألة النووية لن تحل بواسطة اليابان والولايات المتحدة فقط, فالمطلوب تكاتف الإنسانية جمعاء, لأننا لسنا بحاجة إلي ناجين آخرين من جحيم القنابل النووية, وكفي ما نعانيه حتي الآن, ويطالب تسوبوي القوي النووية في العالم وهي الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والصين وكوريا الشمالية وباكستان والهند وروسيا بالتخلي عن التسلح النووي, من أجل رفاهية الإنسانية والعالم, وأن هذا يستدعي توجيه ميزانية الأبحاث والتطوير والإنتاج والتملك والتجارب إلي أعمال من شأنها رفعة قيمة الإنسانية.
وإذا كان تسوبوي وأوجورا من ضمن الناجين من جحيم القنبلة الذرية اللذين وافقا علي الحديث مع الأهرام, فإن هناك ناجين آخرين يرفضون حتي الآن البوح بأسرار هذا اليوم اللعين
عن الأهرام القاهرية
http://www.ahram.org.eg/Index.asp?CurFN=repo3.htm&DID=9300
6 - 8
رسالة هيروشيما : أمنية نصر
يحتفل العالم اليوم بذكري أكثر الجرائم وحشية وترويعا بحق الإنسانية.. كان صباح يوم الاثنين مشرقا وصافيا بلا أي سحب, ولم يعكر صفو مدينة هيروشيما اليابانية سوي بعض الطلعات الجوية للطيران الحربي الأمريكي لتنطلق صفارات الإنذار في أنحاء المدينة, وليهرول السكان إلي المخابئ الأرضية, ويستمر الحال هكذا حتي الساعة السابعة والنصف ليعود بعدها السكان إلي مساكنهم, فمنهم من ذهب إلي عمله, وتوجه الطلاب إلي جامعاتهم ومدارسهم, وبقي الأطفال مع عائلاتهم في المنازل.
استيقظ نحو350 ألف نسمة, هم سكان مدينة هيروشيما المطلة علي خليج هونشو, علي أصوات السفن الراسية في الخليج, وبينما الحال هكذا, كانت هناك قاذفة أمريكية من طراز بي29 أطلق عليها اسم اينولا جاي تقترب من الخليج الهادئ, ويتحدث قائدها الكابتن بول تيبيتس مع القيادة العليا ليتلقي الأوامر النهائية بتنفيذ العملية السرية التي أطلق عليها اسم الولد الصغير, وفي تمام الساعة الثامنة والربع صباحا في مثل هذا اليوم منذ62 عاما استعد طاقم القاذفة لتنفيذ المهمة, إذ أبلغه قادته بموقع التنفيذ, وكانت مدينة هيروشيما البائسة في هذه اللحظات علي موعد مع الموت, بعدما سقطت عليها القنبلة الذرية الأولي.
عملية الولد الصغير حولت مدينة هيروشيما الجميلة, التي كانت مصدر فخر سكانها, إلي كتلة من اللهب, مما أدي إلي مصرع ما يقرب من140 ألف شخص, بينهم8 آلاف طالب وطالبة.
هذه العملية التي تحل ذكراها علي العالم اليوم تذكره بأكثر الجرائم وحشية وترويعا بحق الإنسانية, أدت إلي اندفاع كتل نار إلي أعلي الخليج بسرعة360 قدم/ ثانية, ولتتحول هذه الكتل البيضاء في لمح البصر إلي اللون البرتقالي ثم الأحمر, وما لبث أن هدأت النيران التي اندفعت كشلال هائج حتي ظهرت غيمة علي شكل فطر عيش الغراب مكونة من غبار بارتفاع30 ألف قدم, وكان الدمار كله تحت هذه الغيمة,حيث بقيت شظايا زجاجية مشعة باليورانيوم المشع خلفتها حرارة الانفجار.
هذا الانفجار الأضخم في التاريخ تولدت عنه كرات نارية بمركز وصلت درجة حرارته إلي عدة ملايين من الدرجات, وكان للإشعاعات الحرارية التي انطلقت في جميع الاتجاهات تأثير قوي علي الأرض لعدة ثوان, وبلغت حرارة المركز ما بين3000 و4000 درجة مئوية( الحديد ينصهر عند درجة1536 درجة), وأدت درجة الحرارة الشديدة إلي احتراق وصلات السكك الحديدية والسياجات الخشبية علي جانبي الطرق لأكثر من كيلومترين من مركز الانفجار, واحترقت الأشجار وتفحمت تماما.
وعلاوة علي الدمار المادي في الممتلكات, فإن نتائجه الاجتماعية لم تتضح تماما إلا بعد فترة, إذ أحس السكان بأن الحياة لن تعود لمدينتهم الهادئة, وأنه من الصعب إعادة تعمير وبناء المدينة, وسرت شائعة بأن النباتات لن تنمو قبل75 عاما بسبب الإشعاعات.
في هذا اليوم وخلال لحظات قليلة فقد العديد من الأشخاص أحباءهم وأصدقاءهم, وتفرقت الأسر الهانئة, ومن أسعده حظه وكتبت له النجاة بقي يعاني ندوبا وجروحا جسدية ونفسية, بالإضافة إلي مخاوف شتي من احتمال الإصابة بأمراض سرطانية ظلت تؤرقهم ليل نهار.
حديث الآلام
لازلت أشم رائحة الشعر المحترق ممتزجة بصرخات العديد من الأشخاص, وأصوات بكاء الأطفال صارخين علي أمهاتهم لإنقاذهم من نيران مستعرة تأكل أجسادهم الضعيفة, غير مدركين أن معظمهم قد تحولوا إلي أيتام.. هكذا تتذكر كيكو أوجورا(70 عاما) مشاهد هذا اليوم عندما كانت طفلة في الثامنة من عمرها حين هاجمت قاذفة الاينولا جاي هيروشيما, بسبب رغبة سيطرت علي الرئيس الأمريكي ترومان لإظهار الولايات المتحدة كقوة عظمي, لا تستطيع أقوي الإمبراطوريات العسكرية في ذلك الوقت الصمود أمامها.
أوجورا هي إحدي الناجيات من الرغبة المدمرة للرئيس الأمريكي ترومان, وتحدثت إلي الأهرام هي وناج آخر يدعي سوناي تسوبوي.
تستعيد أوجورا ذكرياتها وتقول: كان يوما صحوا أردت فيه الذهاب إلي المدرسة, غير أن والدي أصر علي بقائي في المنزل, وقال: أشعر بأن مكروها سيحدث.. ابقي معنا, شعرت أوجورا في البداية بأن والدها يهول الأمور, غير أنها أدركت بعد ساعات من هذا ببعد نظر الوالد: ولكني لم أكن أدري أنه قد أنقذني من موت محقق, فطوال أيام مضت كنا نري قاذفة الصواريخ تجوب سماء المدينة دون أي أضرار, ولم يكن ليساورنا شك بأن هذه الطلعات هدفها الأول, بالإضافة لاستعراض القوة, هو تحديد المكان الأفضل الذي يسبب الضرر الأكبر للمدينة.
وتروي كيكو أوجورا الناجية من جحيم القنبلة الذرية قائلة: بقيت في المنزل بناء علي رغبة والدي, وبقيت ألعب علي التلة الصغيرة حتي أغشي بصري ضوء ساطع شديد البياض يميل إلي الزرقة بعض الشيء, تبعه صوت انفجار رهيب يصاحبه غبار كثيف, وياليت الأمر توقف عند الانفجار, شدة الانفجار قذفتني بعيدا عن المنزل وارتطمت بقوة علي الأرض, وبعد لحظات أفقت من هول الصدمة, لم أفكر سوي بمنزلي كملجأ لي للاحتماء من المباني المحطمة والأشجار التي أخذت تتساقط فوق رأسي, وبرغم يقيني بقربي من المنزل فإنني لم أستطع الوصول إليه, وفي وسط رياح عاصفة وظلام دامس.. كان أمرا غريبا, لأن الساعة لم تكن تتجاوز الثامنة والنصف صباحا أبدا.
الانفجار والصدمة لم يمنعا أوجورا من سماع صوت بكاء اخوتها الصغار, وحاولت الركض باتجاه المنزل, ولكن فجأة أمسكت بقدميها أيد لزجة ساخنة, ارتعبت وخافت كثيرا لكنها نسيت خوفها حين طلب منها هذا الصوت شربة ماء تبعته أصوات أخري ترجوها تقديم المساعدة نفسها, أي شربة الماء.
ركضت باتجاه المنزل وأتيت بالمياه للجرحي, شكرني بعضهم, لكن البعض الآخر ما إن شربوا المياه حتي أخذوا يتقيأون دما وماتوا علي مشهد مني..
كان من الطبيعي أن يتملك الطفلة أوجورا إحساس رهيب بالذنب, وبأنها قتلت الذين طلبوا مساعدتها بشربة ماء, وفي المساء جاء والدها الذي كان مشغولا مع نفر قليل من الرجال بإسعاف الجرحي ودفن الموتي, وقال لهم محذرا: إياكم وإعطاء الجرحي المياه, فقد سمعت أن بعضهم قد مات بعد أن تمت سقايتهم, وتوجه الوالد إلي العائلة بسؤال واحد محدد تتذكره أوجورا جيدا وهو: هل هناك من أفراد عائلتي من قدم المياه لهؤلاء الجرحي؟, نفي الجميع ولاذت الطفلة بالصمت ولم تستطع أبدا إعلان الحقيقة التي ظلت تؤرقها لسنوات عديدة حتي مات والدها.
وفي أسي وحزن تقول الناجية من عذاب القنبلة: مازلت أتذكر مشاهد طوابير طويلة يغلفها صمت ثقيل من اللاجئين يشبهون شخصيات الموتي الأحياء كما في أفلام الرعب, وقد مد العديد منهم أيديهم وتدلي الجلد من أيديهم, وغطت الدماء الأجساد.
أما عن الدمار المادي فحدث ولا حرج, تواصل أوجورا سرد ذكرياتها عن هذا اليوم اللعين, وتواصل كلامها وكأن الحدث كان منذ دقائق عديدة: الدمار الذي أوجدته القنبلة كان شديدا, فعلي الرغم من أن المسافة التي تفصل منزلي عن مركز القنبلة تجاوزت الكيلومترين, فإنني لم أجد سوي مبنيين فقط من مباني المدينة العديدة غير مدمرين, وبعد ساعات أخذت تتساقط علينا قطرات من مطر أسود ثقيل يشبه الشحم, وكأن القنبلة لم تكن تكفينا.
وتستطرد أوجورا: رأيت مشاهد أكثر بشاعة, حيث بدأت أسراب من ذباب هائل الحجم في مهاجمة جثث الضحايا, كما شاهدت المئات من الضحايا يحاولون جاهدين دفع الذباب عن جروحهم, ولم يدر بخلد أوجورا أن القنبلة التي تعرضت لها مدينتها ستكون لها آثار مدمرة أخري بعد مضي عامين كاملين فتقول: فوجئ الكثيرون بأن أشخاصا غير مصابين ظاهريا يعانون أعراضا أصيب بها أشخاص تعرضوا لإشعاع مباشر نتج عن تفجير القنبلة, إذ عرف السكان للمرة الأولي في عام1947 معلومات عما يعرف بالإشعاع الذري, وبدأت عربات الإسعاف تأخذ الناجين كل فترة وأخري لفحص دوري, وهنا شعرت كيكو أوجورا بخوف دائم, فعلي الرغم من النتيجة السلبية للفحص فإنها كانت تشعر مثل الآخرين بأن السرطان سيهاجمها في يوم ما.
السيد تسوبوي التقط أطراف الحديث من السيدة أوجورا وبدأ يروي قصته, أو بالأحري مأساته, قائلا: كنت علي بعد كيلومتر واحد من مركز الانفجار في طريقي للذهاب إلي الجامعة, تعصف بي أفكار شتي عن حالة اليابان العسكرية, فقد كانت تصلنا أنباء عن خسائر الجيش, ومضيت أفكر عما يخبئه القدر لنا في الأيام المقبلة.
ووسط أفكاره ومشاهده عن الحرب, يواصل السيد تسوبوي, الذي كان يبلغ عامه العشرين آنذاك: أحسست بضوء ساطع استغرق ثواني معدودة, وقوة شيطانية هائلة تقذف بي لمسافة10 أمتار, بعدها غرقت في ظلام دامس, وحين أفقت أحسست بآلام مبرحة, ورأيت يدي وقد احترقت تماما, والدماء تنزف بغزارة من وجهي, وملابسي تحرقني, شل تفكيري ولم أستطع نزع ملابسي, فبدأت الركض, ورأيت أناسا شبه أحياء وآخرين قد تفحموا تماما.
تجاعيد وجه تسوبوي لم تنجح في إخفاء مشاعره وغضبه, وهو يحكي مأساته: لقد شاهدت أمهات يحتضن أطفالهن وماتوا معا, وقد التحمت أجسادهم, وارتسمت علي الوجوه علامات الرعب والألم, مشاهد ما بعد الانفجار لم تبرح ذاكرة تسوبوي, خاصة مشهد فتاة صغيرة بملابس المدرسة وقد تدلت مقلتاها علي خديها, وآخرون يحاولون جاهدين الضغط علي أمعائهم حتي لا تخرج من أجسادهم. يقول لقد أحسست بالقلق علي والدتي, وتساءلت: كيف هي الآن؟ هل تعاني في صمت؟ هل ماتت؟ ووسط هذه المشاعر ملأني غضب عارم أنساني جروحي وحروقي العديدة, فلم أفكر سوي بالانتقام.
وهنا بدأ تسوبوي في الاقتراب من مركز الانفجار ولم يخف شعوره بالخوف: هالني ازدياد كبير في عدد الجثث, وتملكتني فكرة واحدة, هي أن مدينتي الحبيبة تموت, وقتها اضطررت للقيام بعمل لن أنساه أبدا, فقد دست علي جثث الضحايا لأنجو بنفسي من موت محقق.
المؤلم في حياة الناجين هو تحطم إنسانيتهم.. يقول تسوبوي, ويواصل: فالقنابل الذرية هي شر مطلق لا تتسامح مع البشر, وهنا يحذر تسوبوي العالم من مغبة اندلاع أي حرب نووية, فهي ستأكل الأخضر واليابس, ولن ترحم وستقضي علي البشرية, وستكون أضرارها ومخاطرها أضعاف ما شاهدناه في هيروشيما, ولن يحقق أحد أي انتصار, لأن الكل سيكون خاسرا بالتأكيد.
تحذير تسوبوي يستببعه نصيحة للجميع: المسألة النووية لن تحل بواسطة اليابان والولايات المتحدة فقط, فالمطلوب تكاتف الإنسانية جمعاء, لأننا لسنا بحاجة إلي ناجين آخرين من جحيم القنابل النووية, وكفي ما نعانيه حتي الآن, ويطالب تسوبوي القوي النووية في العالم وهي الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والصين وكوريا الشمالية وباكستان والهند وروسيا بالتخلي عن التسلح النووي, من أجل رفاهية الإنسانية والعالم, وأن هذا يستدعي توجيه ميزانية الأبحاث والتطوير والإنتاج والتملك والتجارب إلي أعمال من شأنها رفعة قيمة الإنسانية.
وإذا كان تسوبوي وأوجورا من ضمن الناجين من جحيم القنبلة الذرية اللذين وافقا علي الحديث مع الأهرام, فإن هناك ناجين آخرين يرفضون حتي الآن البوح بأسرار هذا اليوم اللعين
عن الأهرام القاهرية
http://www.ahram.org.eg/Index.asp?CurFN=repo3.htm&DID=9300
6 - 8
Labels: تأريخ
3 Comments:
أعتقد أن اليابان لن تنسى أبداً هذه الحادثة وأن أمريكا منذ 62 عاماً هي نفسها اليوم , ولكن الضحية تغيرت, فالضحية اليوم هي شعب لا يمتلك طائرات ولا قاذفات, شعب فقير مشرد, عانى الأمرين على مدى تاريخه, هو الشعب العراقي, ما زالت امريكا تسير في طريق الانحطاط وسيأتي اليوم الذي سيثأر فيه الشعب الياباني لضحاياه, وسيأتي اليوم الذي ستطرد المقاومة العراقية هؤلاء الأنذال من أرض العراق الطاهرة, يوم الحرية قادم, وإن غداً لناظره قريب.
مشاهد رهيبة,مهما تفعل الولايات المتحدة لتعوض أهل اليابان فلن تستطيع تعويضهم,وتاريخ الولايات المتحدة قائم على سفك الدماء منذ أيام الهنود الحمر وحتى يومنا هذا في العراق وأفغانستان ,بإفتراض أن هتلر قام بالهولوكوست(المحرقة النازية)فإن ما حدث بأهل هيروشيما أكثر ألف مرة من المحرقة النازية المزعومة التي يتغنى بها الغرب
أخوكم محمود حلمي
مائة وأربعون ألف ضحية .. حقا ً إنها مأساة .. لن ننسى هذا اليوم أبداً
Post a Comment
<< Home