سيراً على خُطى "بلاد الشمس" إلى التقدم
بقلم / شاكر النابلسي
-1-
يحاول بعض الليبراليين، وهم ليبراليون رومانسيون حالمون بالدرجة الأولى، وذوو نظرة ثقافية طفولية، أن يقرؤوا التاريخ ويفهموه من خلال إنكار الماضي، ومحاولة تجاهل التراث أو نفيه، فيأتي فهمهم للتاريخ وللحاضر وللمستقبل فهماً ناقصاً وخاطئاً في معظم الأحيان. فالسحُب التي تظهر في السماء هذا اليوم، ما هي إلا امتداد لحالة الطقس البارحة وقبل البارحة. والتاريخ عبارة عن كائن حي، له آباء وأجداد، كما له أولاد اليوم وأحفاد المستقبل. وآباء وأجداد التاريخ هو التراث، وأولاده هم نحن بما نحمل من جينات وراثية تراثية.
-2-
كل تراث لشعب من الشعوب يمتلئ بالغث والسمين، بالعقل والنقل، بالثابت والمتحول، بالمقدس والمدنّس، بالحق والشعوذة، بالاتباع والابتداع، بالخرافات والحقائق. فلا يوجد تراث في تاريخ البشرية كلها غث أو كله سمين، كله عقل أو كله نقل.. إلخ. والصعوبة الكبرى التي واجهت الباحثين في الشرق والغرب هي عملية الفرز لهذه الثنائيات، وتنخيل الحَبِّ من الزوان. وهو ما يُطلق عليه إعادة قراءة التراث، أو تجديد التراث، أو توليد الحاضر من الماضي.. إلخ. بل إن هناك صعوبة أكبر من تلك، وهي كيف نستطيع أن نستفيد من ماضينا ببناء حاضرنا ومستقبلنا. وكيف لنا أن نجعل من حاضرنا ومستقبلنا ابناً شرعياً لماضينا، وليس ابن سِفاح.
فلكي نفهم الحياة علينا الرجوع إلى الماضي، ولكي نعيش الحياة علينا الاتجاه نحو المستقبل، كما قال أحد الفلاسفة.
وأهمية التراث المُنتقى والمُنخّل والمفروز في حياة الشعوب، أنه يحفظ لها هويتها، ويجعلها تعمل بجد وإخلاص للمحافظة على هذه الهوية. فالهوية بالنسبة لأي شعب من الشعوب هي الملح الحافظ لها من الانحلال والتعفّن والذوبان.
-3-
يعاني كثير من المثقفين العرب من إشكالية "عبء التراث"، ويرون أن سرَّ تخلّف العرب يكمُن في تراثهم، وليس في جنسهم أو جيناتهم. بل إن هناك من المفكرين العقلانيين العرب من يعتبر أن لُبَّ الإشكالية العربية وقلبها، نابع من أن موجات الفكر العربي المعاصر منذ القرن التاسع عشر حتى الآن، لم تنتج لنا التراث العقلاني المفروز الصالح للحاضر والمستقبل، لكي يتمَّ البناء عليه. إذن، فالمشكلة ليست في التراث، ولكن في فرز هذا التراث، بل أكثر من هذا، إنها كيفية الاتفاق على مقاييس الفرز، وماذا يؤخذ من التراث وماذا يُترك منه. وهو ما سوف يمكننا من إدراك عصر تنوير عربي على شاكلة عصر التنوير الغربي (ديكارت أول من استعمل مصطلح "التنوير" في القرن السابع عشر) الذي أدى إلى الثورة الصناعية الغربية، كما أدى إلى وضع أوروبا على طريق الحداثة، بل إيصالها إلى مرحلة "ما بعد الحداثة". ولكن عصر تنويرنا - فيما لو تحقق - لن يكون بنتائجه مطابقاً لعصر التنوير الغربي لاختلاف المكان، والزمان، والإنسان، والقيم الثقافية والاجتماعية. فأوروبا لم تحقق عصر التنوير إلا بعد شرط أساسي وقاسٍ، وهو تجديد الإيمان، وتنظيف النصوص الدينية من الهوامش الشعبوية (الشعوذة والخرافات والسحر والعادات والطقوس والتقاليد المتوارثة، التي شكَّلت ما يُطلق عليه "التديّن الشعبي"). وهذا ما قامت به بعض الاتجاهات الدينية السلفية في العالم العربي، في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، التي سعت إلى فرز الإسلام النقي، عن الإسلام الشعبوي، الذي كان منتشراً - وما زال - في الريف والأطراف العربية.
-4-
عندما دخلت أوروبا عصر التنوير، وأخذت من العرب التراث اليوناني المترجم والمحفوظ في "بيت الحكمة" منذ عهد الخليفة المأمون، لإضاءة حاضرها بنور ماضينا، لم تكن غايتها نسخ تجربة الماضي العربية في ذلك العصر بنسخة أوروبية، وإنما كان الهدف الأساسي هو استعارة أنوار ماضينا لإضاءة حاضرها. فالحاضر لا يُضاء إلا بالماضي. كما أن الأرض لا تضاء كل يوم إلا بضوء شمس الأمس. وضوء الماضي لن يعيق إبقاء الماضي دروساً مستفادة، وجعل المستقبل ابتكاراً وإبداعاً. وبهذا لن يكون هناك تضارب بين الماضي والمستقبل، ولن يكون الماضي تركة ثقيلة على ظهورنا ننوء بها، وتعيقنا عن الانطلاق إلى المستقبل، فيما لو التزم كل زمن بحدوده، وكانت العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل علاقة تعاون مثمرة، وليست علاقة تسلّط وسيطرة وإلغاء للآخر، وتناطح أيديولوجي.
-5-
عندما غزا نابليون مصر فيما عُرف بـ "الحملة الفرنسية" عام 1798، أصيب العالم العربي والإسلامي على صوت مدافع نابليون بصدمة الحضارة الغربية، وبجرح نرجسي عميق، عندما طرح على نفسه سؤالاً كبيراً وقاسياً، ما زال يتردد حتى هذه اللحظة، رغم الإجابات التاريخية الكثيرة عنه:
- لماذا نحن متأخرون إلى هذا الحد، ولماذا الغرب متقدم إلى هذا الحد؟
ولكن الإجابة العملية على هذا السؤال لم تتم حتى الآن. أو لم نعمل على أرض الواقع للإجابة عليها، وتدارُك ما نحن فيه من تخلف. في حين أن اليابان (بلاد الشمس) التي أصابها ما أصابنا في القرن الثامن عشر، واستيقظت فجأة على مدافع الغرب كما استيقظنا نحن، استطاعت أن تجيب على السؤال الكبير بالتطبيق العملي. فكما ضربنا نابليون بمدافعه عام 1798 ، ضربت أربع سفن أمريكية بمدافعها ميناء "أوراوا " الياباني عام 1853، فأيقظت اليابانيين من سباتهم العميق، وعزلتهم التاريخية. وكانت تلك الصدمة بداية تشكيل اليابان الحديثة، التي كانت نتيجة خروج اليابان من عزلتها، وابتعاث طلبتها إلى الغرب.
إذن، لماذا تقدمت اليابان وتخلفنا نحن؟
سؤال كبير وله إجابات كثيرة ومختلفة. ولكن الإجابة الواقعية والصريحة هي أن اليابانيين في علاقتهم بالآخر لم يخلطوا بين التقدم العلمي والتكنولوجي وبين القيم الأخلاقية (وخاصة ما يتعلق بالمرأة وشجونها). في حين اعتبرنا أن القيم الأخلاقية الغربية جزء لا يتجزأ من التقدم العلمي والتكنولوجي والثقافي الغربي. وخلطنا بين تقدم الغرب المادي وقيمه الأخلاقية. وأن قبولنا للتقدم الغربي، يعني قبولنا لقيمه على مختلف المستويات. وكانت مقاومتنا الثقافية للغرب على شاكلة مقاومتنا السياسية الآن (إما كُله وإلا فلا). في حين أن اليابان ومعظم دول وشعوب شرق آسيا، قاوموا الثقافة الغربية بازدواجية ذكية: تنجيد التراث وليس تجديده بآخر. وهو ما عبر عنه "لي كوان يو" المستبد العادل، وباني سنغافوره الحديثة وحاكمها (1965-1990) و"الكاهن الأكبر للقيم الآسيوية" بضرورة تنجيد تراث كونفوشيوس وتحديثه، وليس استبداله بالقيم الغربية السائدة.
*كاتب أردني
عن الوطن السعودية
http://www.alwatan.com.sa/news/writerdetail.asp?issueno=2724&id=4824&Rname=23
15 - 3 ثقافة
-1-
يحاول بعض الليبراليين، وهم ليبراليون رومانسيون حالمون بالدرجة الأولى، وذوو نظرة ثقافية طفولية، أن يقرؤوا التاريخ ويفهموه من خلال إنكار الماضي، ومحاولة تجاهل التراث أو نفيه، فيأتي فهمهم للتاريخ وللحاضر وللمستقبل فهماً ناقصاً وخاطئاً في معظم الأحيان. فالسحُب التي تظهر في السماء هذا اليوم، ما هي إلا امتداد لحالة الطقس البارحة وقبل البارحة. والتاريخ عبارة عن كائن حي، له آباء وأجداد، كما له أولاد اليوم وأحفاد المستقبل. وآباء وأجداد التاريخ هو التراث، وأولاده هم نحن بما نحمل من جينات وراثية تراثية.
-2-
كل تراث لشعب من الشعوب يمتلئ بالغث والسمين، بالعقل والنقل، بالثابت والمتحول، بالمقدس والمدنّس، بالحق والشعوذة، بالاتباع والابتداع، بالخرافات والحقائق. فلا يوجد تراث في تاريخ البشرية كلها غث أو كله سمين، كله عقل أو كله نقل.. إلخ. والصعوبة الكبرى التي واجهت الباحثين في الشرق والغرب هي عملية الفرز لهذه الثنائيات، وتنخيل الحَبِّ من الزوان. وهو ما يُطلق عليه إعادة قراءة التراث، أو تجديد التراث، أو توليد الحاضر من الماضي.. إلخ. بل إن هناك صعوبة أكبر من تلك، وهي كيف نستطيع أن نستفيد من ماضينا ببناء حاضرنا ومستقبلنا. وكيف لنا أن نجعل من حاضرنا ومستقبلنا ابناً شرعياً لماضينا، وليس ابن سِفاح.
فلكي نفهم الحياة علينا الرجوع إلى الماضي، ولكي نعيش الحياة علينا الاتجاه نحو المستقبل، كما قال أحد الفلاسفة.
وأهمية التراث المُنتقى والمُنخّل والمفروز في حياة الشعوب، أنه يحفظ لها هويتها، ويجعلها تعمل بجد وإخلاص للمحافظة على هذه الهوية. فالهوية بالنسبة لأي شعب من الشعوب هي الملح الحافظ لها من الانحلال والتعفّن والذوبان.
-3-
يعاني كثير من المثقفين العرب من إشكالية "عبء التراث"، ويرون أن سرَّ تخلّف العرب يكمُن في تراثهم، وليس في جنسهم أو جيناتهم. بل إن هناك من المفكرين العقلانيين العرب من يعتبر أن لُبَّ الإشكالية العربية وقلبها، نابع من أن موجات الفكر العربي المعاصر منذ القرن التاسع عشر حتى الآن، لم تنتج لنا التراث العقلاني المفروز الصالح للحاضر والمستقبل، لكي يتمَّ البناء عليه. إذن، فالمشكلة ليست في التراث، ولكن في فرز هذا التراث، بل أكثر من هذا، إنها كيفية الاتفاق على مقاييس الفرز، وماذا يؤخذ من التراث وماذا يُترك منه. وهو ما سوف يمكننا من إدراك عصر تنوير عربي على شاكلة عصر التنوير الغربي (ديكارت أول من استعمل مصطلح "التنوير" في القرن السابع عشر) الذي أدى إلى الثورة الصناعية الغربية، كما أدى إلى وضع أوروبا على طريق الحداثة، بل إيصالها إلى مرحلة "ما بعد الحداثة". ولكن عصر تنويرنا - فيما لو تحقق - لن يكون بنتائجه مطابقاً لعصر التنوير الغربي لاختلاف المكان، والزمان، والإنسان، والقيم الثقافية والاجتماعية. فأوروبا لم تحقق عصر التنوير إلا بعد شرط أساسي وقاسٍ، وهو تجديد الإيمان، وتنظيف النصوص الدينية من الهوامش الشعبوية (الشعوذة والخرافات والسحر والعادات والطقوس والتقاليد المتوارثة، التي شكَّلت ما يُطلق عليه "التديّن الشعبي"). وهذا ما قامت به بعض الاتجاهات الدينية السلفية في العالم العربي، في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، التي سعت إلى فرز الإسلام النقي، عن الإسلام الشعبوي، الذي كان منتشراً - وما زال - في الريف والأطراف العربية.
-4-
عندما دخلت أوروبا عصر التنوير، وأخذت من العرب التراث اليوناني المترجم والمحفوظ في "بيت الحكمة" منذ عهد الخليفة المأمون، لإضاءة حاضرها بنور ماضينا، لم تكن غايتها نسخ تجربة الماضي العربية في ذلك العصر بنسخة أوروبية، وإنما كان الهدف الأساسي هو استعارة أنوار ماضينا لإضاءة حاضرها. فالحاضر لا يُضاء إلا بالماضي. كما أن الأرض لا تضاء كل يوم إلا بضوء شمس الأمس. وضوء الماضي لن يعيق إبقاء الماضي دروساً مستفادة، وجعل المستقبل ابتكاراً وإبداعاً. وبهذا لن يكون هناك تضارب بين الماضي والمستقبل، ولن يكون الماضي تركة ثقيلة على ظهورنا ننوء بها، وتعيقنا عن الانطلاق إلى المستقبل، فيما لو التزم كل زمن بحدوده، وكانت العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل علاقة تعاون مثمرة، وليست علاقة تسلّط وسيطرة وإلغاء للآخر، وتناطح أيديولوجي.
-5-
عندما غزا نابليون مصر فيما عُرف بـ "الحملة الفرنسية" عام 1798، أصيب العالم العربي والإسلامي على صوت مدافع نابليون بصدمة الحضارة الغربية، وبجرح نرجسي عميق، عندما طرح على نفسه سؤالاً كبيراً وقاسياً، ما زال يتردد حتى هذه اللحظة، رغم الإجابات التاريخية الكثيرة عنه:
- لماذا نحن متأخرون إلى هذا الحد، ولماذا الغرب متقدم إلى هذا الحد؟
ولكن الإجابة العملية على هذا السؤال لم تتم حتى الآن. أو لم نعمل على أرض الواقع للإجابة عليها، وتدارُك ما نحن فيه من تخلف. في حين أن اليابان (بلاد الشمس) التي أصابها ما أصابنا في القرن الثامن عشر، واستيقظت فجأة على مدافع الغرب كما استيقظنا نحن، استطاعت أن تجيب على السؤال الكبير بالتطبيق العملي. فكما ضربنا نابليون بمدافعه عام 1798 ، ضربت أربع سفن أمريكية بمدافعها ميناء "أوراوا " الياباني عام 1853، فأيقظت اليابانيين من سباتهم العميق، وعزلتهم التاريخية. وكانت تلك الصدمة بداية تشكيل اليابان الحديثة، التي كانت نتيجة خروج اليابان من عزلتها، وابتعاث طلبتها إلى الغرب.
إذن، لماذا تقدمت اليابان وتخلفنا نحن؟
سؤال كبير وله إجابات كثيرة ومختلفة. ولكن الإجابة الواقعية والصريحة هي أن اليابانيين في علاقتهم بالآخر لم يخلطوا بين التقدم العلمي والتكنولوجي وبين القيم الأخلاقية (وخاصة ما يتعلق بالمرأة وشجونها). في حين اعتبرنا أن القيم الأخلاقية الغربية جزء لا يتجزأ من التقدم العلمي والتكنولوجي والثقافي الغربي. وخلطنا بين تقدم الغرب المادي وقيمه الأخلاقية. وأن قبولنا للتقدم الغربي، يعني قبولنا لقيمه على مختلف المستويات. وكانت مقاومتنا الثقافية للغرب على شاكلة مقاومتنا السياسية الآن (إما كُله وإلا فلا). في حين أن اليابان ومعظم دول وشعوب شرق آسيا، قاوموا الثقافة الغربية بازدواجية ذكية: تنجيد التراث وليس تجديده بآخر. وهو ما عبر عنه "لي كوان يو" المستبد العادل، وباني سنغافوره الحديثة وحاكمها (1965-1990) و"الكاهن الأكبر للقيم الآسيوية" بضرورة تنجيد تراث كونفوشيوس وتحديثه، وليس استبداله بالقيم الغربية السائدة.
*كاتب أردني
عن الوطن السعودية
http://www.alwatan.com.sa/news/writerdetail.asp?issueno=2724&id=4824&Rname=23
15 - 3 ثقافة
Labels: ثقافة
0 Comments:
Post a Comment
<< Home