اليابان

تتناول المدونة ما يتعلق باليابان. ونرحب بتعاون الزوار في تقديم المقالات والأخبار ضمن هذا الإطار وتصحيح الأخطاء اللغوية فيها بالإضافة إلى ترجمات نصوص يابانية أو إنجليزية سنختارها Al-Yaban blog presents articles and news on Japan in Arabic with cooperation of its visitors. アラビア語による日本専門ブログ。投稿歓迎

2006/08/31

كتاب اليابان يرفعون الحواجز

بقلم: د. شاكر الحاج مخلف

يرى الكاتب "كيجيما هاجيمي" أن الأدب الياباني وخاصة الشعر والقصة انبثقا من وسط رماد الحرب، فخلال فترة الحرب لم يكن هناك من الشعراء الذين لم يتأثروا بالنشاطات العسكرية القومية المتطرفة إلا القليل جداً، فقد عُبئ جميع الشعراء تقريباً ليكتبوا قصائد تشجع على الحرب، وقد شاركوا تلقائياً أكثر من أن يكون ذلك إجبارياً. في هذا النوع من الجهد الأدبي لم يكن باستطاعة أية أعمال أدبية عن المحنة أن تنشأ من مثل هذه النشاطات، ولذلك عندما قهرت القوات الحليفة اليابان عام 1945، لم يكن هناك أساس يمكن أن يقوم عليه الشعراء الجدد، عدا ما يدعى "الديمقراطية الموهوبة" رماد، فراغ، وديمقراطية موهوبة. ولكن ما من شيء إبداعي يمكن توقعه من ذلك.


بينما يرى الكاتب الروائي الياباني "كنجي نكجامي" في دراسة بعنوان "وجه اليابان الخفي" أن النخب متهيبة من كل ما يصدر عن الشعب الياباني, ومن باب الحيطة تفضل الطوائف الحاكمة استلهام كل ما هو أجنبي، وهذا ما يفسر كون اليابان منذ القديم ميالة إلى الاستيراد: البوذية من الصين وكوريا, ونظام الحالة المدنية من فرنسا, والنظام العسكري من ألمانيا, والتقانة من الولايات المتحدة. قبل الحرب ابتدع الطلبة اليابانيون أغنية مشهورة عنوانها "دكنشو", وهو منحوت من أسماء ديكارت وكانط وشوبنهاور، أي الفلاسفة الثلاثة الذين كان الطلبة يخصصون لهم جلّ وقتهم. إن الانتلجانسيا اليابانية باقية تحت تأثير دكنشو آخر مستحدث. إذ يكفي استبدال ثلاثي الثلاثينات "بماركس وفوكو وسارتر". إن هذه النخبة اليابانية التي تبدو في الغالب على غاية من الصلف والزهو هي في الواقع تابعة للغرب تماماً، وهذا الولاء المفرط للثقافة الغربية وازدراء الثقافة الشعبية متكاملان، ويتعلق الأمر في كلتا الحالتين بالحفاظ على سلطة النخب المطلقة على الشعب.

بينما يرى الروائي الياباني "جينشيرو تانيزاكي" ضرورة البحث عن الأسطورة بعيداً عن سحر الغرب، وتركيب عالم خيالي يلتقي فيه الشرق والغرب، بعد أن ولد في خيال الكاتب وصار دعامة لصورة موحدة, حيث يتقابلان ويندمجان مع بعضهما متصادمين أو مكملين لبعضهما البعض بتجدد دائم تغذيه قوى لا تقاوم من الإبداع.

الأدب العريق والجميل

وجهت "راشومون" صدمة كبيرة لطلاب الفن ورواد حرفة الكتابة والمطالعة، ثم جاءت ترجمات أخرى عن الأدب الياباني في مجال القصة القصيرة والرواية والشعر، نتاجات مختلفة تكشف عن أدب قوي وفكر عميق، مضامين شفافة ذات حس إنساني وأشكال متقدمة كثيرا وذات فضاءات ساحرة, فيها رمز الأسطورة الشرقية ذات الأجواء المشحونة بالأسرار والطلاسم والنوازع، عوالم قديمة وحديثة يبدو فيها واضحاً التمزق والغربة والحنين الأبدي إلى ينابيع الحب والجمال تغلفها, مسحة من الحزن الشرقي المستمر.

في بلاط الأدب الياباني وجدنا شواهد الأدب المتميز في روايات مثل "عطش الحب, والجميلات النائمات, والحزن, والجمال, وراقصة الإيزو" وغيرها للكاتب الكبير "يوكيو ميشيما" الحاصل على جائزة نوبل, والذي وضع لحياته حداً عندما انتحر على الطريقة اليابانية, وهو في ذروة مجده الأدبي، بينما كان نتاج معلم الأدب الياباني الكبير "تانيزاكي" 1886- 1965, والذي تماثل روايته "الوشم" مكانة رواية "المعطف" الروسية، حيث كان بمثابة المعلم والقدوة، وصاحب التأثير الكبير في صفوف الكتاب الشباب الذين لا ينكرون أنهم تعلموا منه الكثير.

بينما يصف النقاد الكاتب الأحدث "كاواباتا" بشاعر الحنين الأبدي إلى يابان الحلم والضياء والجمال. وثمة تماثل بين رؤاه وما نجده في روايات الكاتب الفرنسي "بلزاك", مع الأخذ بعين الاعتبار الفاصل الزمني والتطور الاجتماعي والحضاري, ولكن المقصود هنا التقارب في المضامين وطريقة التناول, وهو أيضا يعمد إلى وضع نهاية لحياته تكاد تكون غريبة ومفجعة، في 25 نوفمبر يستسلم لطقوس "السيبوكو" المتمثلة بإدخال السيف في البطن, بعد ذلك قطع الرأس على يد أحد الجلادين، وقد اعتبر موته تعبيرا كاملا عن جيل يشعر بمرارة الهزيمة والتمزق ويحن إلى اليابان القديم بعيداً عن التبعية الأمريكية. تدعو كتاباته للعودة إلى الجذور, تبدو أيضا العناصر الأجنبية تتصارع مع الأصالة اليابانية، وحضور الفكر الغربي نراه في أعماله مجسداً بالوصف البسيط للواقع الموضوعي المجرد من أي قيود وموانع رمزية.

ونجد أن أعمال الثالوث الروائي الياباني "تانيزاكي- كاواباتا- ميشيما" تمثل قمة النتاج الأدبي, ويشار إليها بنتاج العصر الذهبي، كما أن الكتاب الثلاثة يماثلون عصر الرواية الأمريكية الذهبية مع الثلاثي "فوكنر- همنغواي- فتزجيرالد", وإذا كان الثالوث الأميركي قد عمل على تشكيل الرؤيا المكثفة لنهاية الحضارة الجنوبية في روايات فوكنر، ونهاية مرحلة البراءة والسعادة كما هي في روايات همنغواي، ونهاية وهم السنوات المجنونة وتبدد الأحلام كما في روايات فتز جيرالد.

أما الثالوث الياباني فقد تغلغل إلى أعماقه وميض هيروشيما ونكازاكي, واستحال كل ذلك إلى هزيمة قاسية تشد العقل إلى عوالم الحزن والضياع وتدفع إلى امتلاك لحظة العبث. وعندما نقترب من الكتّاب الأحدث عهدا من أمثال "إينويه" الذي لا تختلف شهرته ومكانته عن تانيزاكي وكاواباتا وميشيما، في رواياته الموشومة بالشغف والوحدة والتعاسة، كما في "غيوم حمراء والصيد في الهضاب". بينما الأمر مختلف تماما مع "شوساكو إيندو" الذي ينشر عشرات القصص في كتابه الذي يحمل اسم "امرأة تدعى شيزو", يستحضر وقائع التاريخ للترويج للفكر الكاثوليكي كما لو أنه يحاول إسماع العالم المشتبك مع هموم الحياة نشيد الأرواح.

ويمثل الكاتب "كينزابورو اوي" الذي يعتبره ميشيما ذروة الأدب الياباني، وتمثل أعماله اتجاها متفردا، فهو يسعى إلى القيام ببحث شاعري، ومتعمق في أعماق الذات، كما تمثلت الحالة السياسية في بعض رواياته، ويمثل نموذجا للكاتب اليساري المعارض؛ دفعته تلك الاتجاهات لزيارة الصين ومقابلة زعيمها "ماوتسي تونغ وشوان لاي".

لقد ترك الجيل الأول من كتاب اليابان أثراً كبيراً في الجيل الذي أعقبهم في ريادة فن الرواية والمسرحية والقصة، كما هي الحال في نتاج "مورا كامي" كما في روايته الرائعة "أزرق شبه شفاف", وهو يعد من أهم الكتاب المعاصرين في اليابان الآن.

وتعتبر الكاتبة الأكثر حضوراً في أوساط الشباب "بانانا يوشيموتو", تدور أحداث رواياتها في عوالم الشباب, فهي تناقش الحب والموت والجنس والمخدرات والضياع. وتقف الكاتبة "يوكو تسوشيما" وهي تخوض في تيار بين الحقيقة والخيال محاولة الانفلات من دوائر الحياة الضيقة المسكونة بالحزن والفجيعة، كما تسعى بمثابرة كبيرة للاكتشاف والمتابعة عن قرب، ومن رواياتها المهمة "على ضفة نهر النار". وتنفرد الكاتبة "ميوكي ميابي" في روايتها "بطاقة للجحيم" التي تكشف عن إمكانيات كبيرة في مجال الرواية البوليسية التي اعتبرت رائدتها في اليابان, مما يعيد إلى الأذهان مكانة الكاتبة المشهورة "اجاثا كريستي".

وهكذا نلمس من خلال التفاصيل التي تكشف عن الأدب الياباني العملاق أنه يسعى بهدوء نحو العالمية ويخترق الحواجز ويقف على سلم المنافسة مع جميع أشكال الأدب في دول العالم, وخاصة المتقدم منها. ظاهرتان قويتان اقتحمتا العقول واحتلتا موقعا متميزا لهما وبجدارة: الأدب في جنوب أمريكا اللاتينية, والذي مثله بجدارة مجموعة من الكتاب البارزين من أمثال "ماركيز واستورياس, وبورخيس, والليندي, وكورتاثار, ورولفو, ويوسا, وفونتيس", والأدب الياباني, وتلك الأسماء التي استعرضتها وهي البارزة فيه.

الاتجاه الأول اقترب من مس عصب الوتر الشرقي, وكانت عوالمه التي اجتهد للدخول منها إلى العقول, السحر الذي يحاول إيجاد بوابة للهروب من الواقع إلى عوالم متخيلة تكشف عن المعادلة المفقودة في الحياة هناك، كما لو أن الكتاب كانوا يستوحون عوالم الفنتازيا والسحر في ألف ليلة وليلة. أثارت رواياتهم الصخب والتعارض مع القيم الموروثة والبالية واصطدمت مع نسيج الخداع السياسي, وكانت بمثابة موجة هادرة لاتنفك تثير الرعب والخوف وتضرب شواطئ الحياة الساكنة فتثير الكثير من الأسئلة وعلامات الاستفهام. بينما عمد الأدب الشرقي الياباني إلى كشف الموروث الفلكلوري والتوغل في أعماق التاريخ والحوادث والإنسان واستخدام البيئة والطبيعة كعوامل صراع ينذر بالدمار ويمزق العوالم المرتبة ويشعل فيها الحزن ويزرع في أروقتها اليأس.

محاولات ذكية ومتفردة في مزج الألم بالفرح والانكسار بلحظة الولادة والموت في شروق شمس جديدة. أحاسيس وأفعال تراها أحيانا وحشية قسرية, ولكنها أيضا إنسانية شفافة، شغلت مسألة التحول الذي مرت اليابان به من القبضة الإمبراطورية إلى وهم الحرب القاسية وهزائمها إلى الدخول في عالم التبعية الأمريكية والعيش الهامشي على حضارة مستوردة تستفز عقول اليابانيين وتدفع كتابهم إلى البحث عن التأصيل وشحن الأذهان بالموروث القديم الذي يتسلق الحياة بتفرد يعطي التجديد والخصوصية.

إن الخيال والفنتازيا التي تجمعت في حضارة العراق القديم وما جاوره تجدها ماثلة بوضوح مستوحاة في قصص وحوادث تم تطويعها لتناسب الموروث القديم الحكاية الشرقية ذات أجواء واحدة ومدلولات عند التجريد تبدو متماثلة، راشومون, كما عطش الحب, كما الجميلات النائمات, كما دائرة الطباشير البريختية، قصص وحكايات تجدها مثيلا لها في الفلكلور الشرقي العربي.

ولنتوقف قليلا عند المضامين التي انطلق منها الكاتب "تانيزاكي" والموسومة بالوشم، فهو قد اختار قصة بسيطة للغاية عن شاب يعمل بصنع الوشم في أحد الأحياء القديمة والفقيرة ويحلم مع تفاصيل عمله أن تمنحه الحياة فرصة اللقاء مع امرأة لا مثيل لها، جسم يبدو كواحة بيضاء يستطيع أن يخط عليه كل روحه، ويحدث أن يمنحه القدر تلك الفرصة ويجد تلك المرأة التي شغلت تفكيره كثيراً، ويباشر ممسكاً بريشته الوشمية بين إبهامه والسبابة، يلمس ظهر المرأة برأس إصبعه الصغير في اليد اليسرى, وباليد اليمنى يواصل غرز الإبرة المبلولة بالحبر الصيني لتدخل روحه في تلك المسام إلى الأبد.

الكاتب يلج الحيز السري والجميل في تفاصيل العلاقات الإنسانية, ومع المساحة المرهفة للحنين والشوق والمكابدة الشرقية للفضاء الجنسي نجد أن كتّاب اليابان قد تخلصوا تماما من الحالة الراكدة ورفعوا الحواجز خصوصا في الكتابات الحديثة جداً. وتتكرر ذات المفاهيم والدلالات في رواية أخرى لذات الكاتب تحمل اسم "السكن في الظل" التي تبحث عن العوالم اليابانية القديمة الأنوار والضوء الذي يطرد الليل والنساء.

لقد عاب بعض النقاد على الكاتب أنه يسعى كثيراً لتحقيق الحضور الغربي في رواياته الكثيرة، وتبدو محاولاته كما لو أنها عملية زراعة لبذور الحضارة الغربية في التربة اليابانية، وتلك المحاولات تبدو هجينه، كما في روايته "بعضهم يفضلون نبات القراص".

فكرة الغرب لدى الكاتب تشكل قناعاً مهلهلاً يلبسه البطل، إلى جانب محاولات أخرى قاصرة لتخيل الجنة الأرضية في خيال مشتت يحاكي الزخارف والتحف الصينية والرسوم اليابانية وتأكيد حالة الانبهار الكبير بالموروث الشرقي القديم، وتمثل مجموعة قصصه القصيرة التي تحمل عنوان "حزن الحورية" ذاك الاتجاه الذي يمزج بين الأسطورة وتوترات العصر وتمثل توجهاً للحداثة وللمستقبل يتصف بمنهج علمي يحلل الفساد والسوقية في الحياة والأدب.

تقدم القصص إشارات واضحة إلى عوالم الشرق، حيث الآلفة العذبة والطيبة, وذاك السكون الذي يكاد يكون مملاً، ولكنه عندما يصف امرأة يابانية "شاحبة كوميض القمر، ناعمة كأصوات الحشرات، هشة كقطرات الندى على أوراق العشب". وعندما نشر الكاتب "أينويه" رواياته وقصصه ذات النهج المختلف والإضافة الجديدة لتراث الراية الذهبية، في "بندقية الصيد" كما في "الصيد في الهضاب" يمزج الاندفاع بالتردد والتوهج بالغروب، وهو ينفلت من الإطار المحلي.

وتلعب أفكار داخل حالات العزلة وهموم التعاسة والحزن والفشل حيزاً كبيراً في نتاجه الأدبي، بينما يلقي الكاتب "شو ساكو إيندو" مرساته داخل الإطار الديني الكاثوليكي وكأنه نسخة مكررة من الكاتب الإنجليزي "جراهام جرين" الذي قابله وخلع عليه لقب "الروائي الكاثوليكي الياباني" في مجموعته القصصية الأولى مثل "امرأة تدعى شيزو", تلك القصص التي تدخل في التحاور ضمن دوامات الإيمان والخطيئة والعذاب والرحمة.

الكاتب في نتاجه وفق السياق الزمني المتداخل يتوصل إلى طريقة يعرض فيها أفكاره التي تمثل تداعي متواصل لذكريات قديمة تنتظم في تماثل معاصر، بينما تمثل روايات وقصص "كينزابورو أوي" وخاصة تلك التي كتبها أثناء الحرب وبعدها تمثل قمة الإبداع في الأدب الياباني المعاصر، فهي نسيج من الشعر الملحمي المتدفق نحو تصوير الهموم الذاتية وفق تشكيل متجانس لعالم مرئي يندفع بعيدا نحو نهايات مجهولة وذات نتائج مبهمة، وهو من خلال حالة الانتماء السياسي يشعر بالقلق على مصير البشرية تحت ضغط الحالة المجهولة في الصراع المتفاقم.

بعد مجموعته القصصية الأولى "سبعة عشرة" أصدر رواية تحمل عنوان "الشاذ", اعتبرت من عيون الأدب الياباني، فقد شن فيها هجوماً كبيراً على مفاسد الحياة والنظام السياسي، ثم جاءت قصصه الكثيرة والمتنوعة في المضامين والمعالجات، وفي أغلبها تعرض للحرب المدمرة وأخلاقياتها ونتائجها الرهيبة على تقدم البشرية، وقد انبرى في زيارته لموقع هيروشيما للتحقيق في الانفجار النووي الذي يشكل وصمة عار في سياسة الحرب. واعتبرت الروايتان اللتان أصدرهما في وقت متقارب وهما "المسخ السماوي" و"مسألة شخصية" من أنضج أعماله بالإضافة إلى روايته الرائعة "علمنا أن نتجاوز جنوننا".

وبعد انغماسه الكلي في السياسة وانتقاله إلى المنفى الاختياري في المكسيك أخرج عدداً هائلاً من الروايات المهمة التي جعلته يثبت ضمن كتاب العالم المرشحين لنيل جائزة نوبل. وأبرز رواياته التي صدرت مؤخرا في الولايات المتحدة: الطوفان، والنساء اللاتي يصغين إلى شجرة المطر، استيقضوا يا شباب العصر الجديد, وكيف تقتل الشجرة, ومن ألعاب العصر. وفي بداية التسعينات نال جائزة نوبل للآداب، وهكذا تتواصل إنجازات الأدب الياباني في صعود السلم الإنساني العالمي ممثلاً بقوة واقتدار للموروث في العالم الشرقي.

تألق الشعر الياباني

لا تختلف الجهود والمعاناة التي بذلها الشعراء اليابانيون من أجل تطوير المضامين والأشكال في القصيدة الحديثة، حيث نجد الدراسات النقدية التي تابعت تلك المراحل تشير إلى تحول الكتاب والشعراء من الموقف الحماسي للحرب والدعاية لها والتخندق مع الشعارات الفاشية إلى التحول بعد الهزيمة الضارية نحو المنصة الديمقراطية. ومع تطور مناهج النقد وأساليب المراجعات التي اعتمدت النتاج المنشور، أصبح من اليسير جداً فرز النقاد اتهاماً للعديد من الشعراء المشهورين في تلك المرحلة وصنفوا قصائدهم ودواوينهم على أنها تمثل المرحلة الأدبية الفاشية. وكان النقاد يؤكدون على الظهور المتزايد للنزعة الديكتاتورية المغالية في القومية والروح التقليدية التي تمثلت باهتياج شديد في قصائد الحرب، واعتبرو النموذج السيئ الذي يسمى "قصيدة التانكا" شكلا يجسد قصائد الموت, الذي كان يواجهه الجنود والجنرالات الذين أعدموا كمجرمي حرب بعد الحرب العالمية الثانية.

اعتمدت حركة التحديث في الأدب عموما والشعر بشكل خاص على نتاج الحضارة الغربية وبشكل خاص النتاج الأميركي والفرنسي, ووجد الاتجاه الطليعي ترحيباً بالغاً لدى الكاتب والشاعر والمثقف الياباني. وأفرز التقليد لذاك الاتجاه تعارضاً مع السلطة العسكرية التي اضطهدت تلك الاتجاهات, واعتبرتها ضمن أفعال التخريب والتشويه الثقافي والسياسي. وقاد ذلك التعارض إلى تضييق مساحة الحرية الفكرية إلى ابعد الحدود وجاء متناغماً مع التطورات اللاحقة التي تمثلت في استسلام رموز المقاومة وبداية اضمحلال المعارضة السياسية وتطور النزعة الفاشية في البلاد. لم يستطع الشعراء الذين اضطهدتم السلطة وطوقهم الناس المثيرون لقيم الحرب وشعاراتها، أن يكتبوا عن حقيقة شعورهم الشخصي الخاص ولو بصورة سرية. ومن نتاج شعراء الحرب الذي روجته الفاشية قصائد للشاعر "كوسودوإيجيرو" الذي قتل في إحدى المعارك, حيث يقول في قصيدة بعنوان "العاصفة":

حيث تعصف هذه الريح بنفسها خارج

أغوار الوديان

من غير هواء أو غيوم

فإن صيحات الوحوش القاضمة

لأوراق الشوك الواخزة

تندفع جميعاً عبر سماء فارغة

كالجنود الأشداء

البشر يقتلون

يقتلون...

استبدل الشعر الياباني رداءه عدة مرات, وقد اختار المدارس الحديثة محلقاً في أجواء الرومانسية، الطبيعية، الرمزية، الدادائية، المستقبلية، السريالية، التعقلية، وهكذا توطدت أواصر العلاقة بين الشعر الياباني والحركة الشعرية الغربية الحديثة. وفي تلك المرحلة رصد النقاد التأثيرات التي تركها اتجاه الشاعر "ت. س. اليوت" في الكثير من النتاج الشعري، وقد ثبت النقاد أيضا عدم وجود علاقة قوية بين الشعر الياباني والشعر الشرقي عموماً, وخاصة في مجال الفلكلور أو الغنائيات الشعبية، لقد اتجه الشعر الياباني بعفوية كبيرة واهتمام متزايد نحو الموروث الغربي، ويعتقد النقاد أن ذلك مرده إلى العزلة الكبيرة التي فرضت على اليابان قبل وبعد الحرب, ومنها الاختلافات الجوهرية في اللغة والسياسة وعوامل أخرى مضافة.

ولكن بعيداً عن كل تلك الأسباب والتوقعات تشير أجندة الشعر الياباني الحديث إلى ميل كبير وشغف حقيقي بالأدب والشعر الغربي والثقافة الغربية عموماً، وهذا يعود بالأساس إلى تأثير النظريات الأدبية والفنية التي أشعلها العالم الغربي في فترات الحرب والسلم. إن نتاج الأدباء والشعراء في اليابان يكاد يكون صدى لذاك الذي ساد في أوروبا وأمريكا، فمثلا أن تأثير الحركة الطليعية في الرواية والمسرح والشعر والفنون التشكيلية وجد له انتشاراً هائلاً في اليابان، كما هي الحال في نتاج الشاعر "تاكيكوجي شوزو" الذي سجن ذات مرة وصار فيما بعد من أكبر النقاد وزميلا دائما للسرياليين من أمثال "أندريه بريتون, وبول إيلوار".

وتذكر المراجع التي تؤرخ للأدب الياباني أن السلطة كانت تحارب تلك الاتجاهات التي تعتبرها مدمرة وضارة للقواعد الفكرية وللبناء الاجتماعي الذي ساد في حقبات زمنية متباعدة ، فقد فكرت السلطة اليابانية على النحو التالي: "إن السريالية مبادئ غير قابلة للتفهم، ولذلك فهي خطرة تماماً بالنسبة لعموم المجتمع الياباني". ومن قصائد الشاعر "شوزو":

زخارف رعدية

رماد الشموع المقلوبة التي لا تعد

فروع وأزهار الأشجار الشفافة

جلجلات المرايا اللامحدودة

إن جسدي بأكمله

في المتجر المائي يزيد

بريقه يوماً بعد يوم

وعندما نقرأ نتاج الشاعر "أوكوما هيديو" نجده شغل كثيراً بنقد النزعات القومية المتطرفة الناهضة بصورة قاسية من حرب مدمرة رهيبة، وبعد موته صار شاعراً بارزاً تتحدث عنه الأجيال الأدبية، يوصف بأنه من المجددين في الشعر الياباني:

حتى لو الظلام يعمي الأرض إلى الأبد

فإن حقوقنا

ستستيقظ على الدوام

الأوراد تظهر

سوداء في الظلام

ولكن إذا ما نفذ نور الشمس إليها

اشتعل لونها

إنني أعرف كل شيء عن الظلام

لذلك فأنا أؤمن بأن النور قادم

فأدركوا المعنى الصعب

في التتابع الزمني الذي يتشكل منه عامل تطور الشعر في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية ظهرت جماعتان شعريتان تحت تسمية "اريجي وريتو", وكان الشعور السائد لدى تلك الجماعات التجديد, حيث الشاعر الذي يمثل صوتا فيهما يفكر بشكل متواصل باكتشاف الصور والأصوات والمشاعر العميقة التي رافقت فترة الحرب وما بعدها، الأمر الذي قاد إلى ظهور موجة تسمى " بالجديد في شعر ما بعد الحرب". وقد صدرت عنهما قصائد شعرية كثيرة, ولعل من أجملها قصيدة الشاعر "أندو تسوكو" الذي ولد في العام 1919, وكتب في مقدمة قصيدته المعنونة "كتاب الموتى" يقول: "في السادس من آب عام 1945 وفي تمام الساعة 8:15 قبل الظهر سقطت القنبلة الذرية الأولى في التاريخ البشري على "هيروشيما" فرسمت على الجرانيت ظلاً بشرياً يجلس ساكناً بشكل أبدي:

نور الشمس الوردي المتبلور

يزحف هنا وهناك فوق الأرض

والفطر الرطب الذي يغطي العالم السفلي

يتسع

إنه يزداد بليون مرة أسرع

من النشاط البشري

لقد مرّ وقت طويل

منذ أن تمنينا أن نمحق

ذلك الظل المشوّه

منذ أن نظرنا إلى سحابة الفطر الهائلة

الأرجوان الداكن التي ظهرت ذلك اليوم

في السماء المتبلورة الوردية

انتفخت بطوننا

مثل بطون النساء الحوامل...

بعد ذلك التاريخ ينشر شاعر آخر موهوب هو "تانيكادا شونتارو" قصائده التي لا ظلال للحرب فيها. كان من المعتقد لدى النقاد أن أعماله الجديدة, والتي وصفت بالنقية وذات البناء الشعري الجديد, والتي اجتذبت الانتباه، فهو ينطلق من حكمة يؤمن بها ويجعلها دليله ومنهجه في بناء القصيدة: "فإن يكون المرء حكيماً في عهد مرهق، يجب أن يكون متيقظاً على الدوام، وأن يكون حساساً بشكل غير عادي". تلك الأفكار جعلت الشباب في مرحلة ما بعد الحرب يتجمعون في تجمع جديد أطلق عليه اسم "مجاديف" ذلك التجمع ضم شعراء موهوبين من أمثال: "أريجي, وريتو, والشاعرة إباراكي نوريكو".

لقد وجد الشعراء أنفسهم داخل إطار التشعب في متاهة الإنتاج الاقتصادي المفرط والروح التجارية بعد العنف والمجاعة والهوس الانتحاري. كانت تلك المظاهر تمثل تغييراً قاسياً يتم تمريره بشكل هائل. إن التعبير عما كان يحدث آنذاك يشير إلى أن الناس يصبحون مشلولين ولا مبالين في الذي يمزق المجتمع الجماهيري. لقد عبر الكثير من الشعراء عن شعورهم بالجزع والمرارة من ذلك الذي يكتنف الثقافة اليابانية، ولكنهم مع ذلك لا يستطيعون أن يفرزوا أو يميزوا حقيقة ذلك التغيير: هل هو بنائي أم غير ذلك؟.

كانت العقول تشعر بالفزع تماماً من الذي يحدث في الوضع الجديد، وضع مخلخل مهترئ في يابان حديثة. لقد رافق عملية التحديث الياباني تأمل هادئ وطويل للوضع الذي أعقب عام 1945، فقد كانت اليابان الحديثة منهمكة في الحروب على الدوام، أو كما يصفها المفكرون اليابانيون أنها كانت تخطط باستمرار لغزو البلدان الآسيوية، مندفعة في دور هزيل لتقليد الإمبريالية الأميركية. ولكن يشار في هذا الصدد إلى دور المثقفين اليابانيين المعاصرين الذين قاوموا تلك الاتجاهات الشوفينية ورفضوا بقوة أن تكون بلادهم كماشة للاستعمار في قارة آسيا. ولكن القوة الغاشمة هزمت أفكارهم جميعاً، ولم يكن وقع الهزيمة على نفوسهم شيئاً بسيطاً, لذلك عمد الكثير منهم إلى الانتحار. ومن لم يقم بوضع حد لحياته على الطريقة اليابانية القديمة، وضع حداً لاستمرار تعايشه مع الأفكار المعاكسة للسلطة وبرامجها العسكرية, وقرر التحول إلى عقيدة أخرى, ولكنها ليست سياسية هذه المرة, بل تنطلق من تنظير فكري أو جمالي يتعلق بمدلولات الإبداع والفن.

تلك هي بلاد اليابان اللغز المحير حالياً، عاشت أكثر من 250 عاماً في إطار من العزلة الهادئة، تاريخ يتقوقع حول نفسه في عزلة رهيبة وطويلة وتصادم يتكرر دائماً بشكل مفاجئ وينشر ظلالاً حزينة لفعل تمارسه عقلية هي مزيج من الكولونيالية والشوفينية داخل إطار نظام تفرد غير مفهوم. وقد تمثلت العزلة اليابانية من تلك اللغة التي تعتبر معزولة جداً، ومع هذا فهي داخل بلاد اليابان تعتبر متمماً للحياة.

ولعل الموقف الياباني ليس قريباً للتعبير عن الموقف الديني بشكل واضح، بل يعتبر بوضوح موقفاً دنيوياً لا يرقى الشك إليه، يمثل من خلال جملة الأفكار والعقائد المفهوم الواضح على الارتباط بالعالم الآخر، العالم المطلق الواسع المفاهيم والرؤى، وهذا يراه البعض منافٍ للعقل في الحياة المعاصرة في اليابان. بينما يحبذ البعض الآخر هذا التوفيق المعاصر، ويراه الكثيرون هو الطريق المؤدي بالمرء إلى أن يكون دنيوي الحكمة، وله رأي بخصوص كل ما هو عصيب، وكذلك موقف محدد من حالات الخير والشر، وبوابة للتعايش السلمي لمختلف العناصر المتعارضة.

ويمكن رصد ذلك التأثير في كل مجال من مجالات الحياة الثقافية اليابانية، التي تمثل خليط يسعى إلى التجانس المعقول، تكتنفه حالات تحويل يوصله إلى حالة تحويل آخر، ومع كل ذلك فهو حفاظ صلب الجوهر كما هي الحال في "النوّ الكابوكي- المسرح الحديث". يضاف إلى ذلك اللوحات اليابانية والغربية، موسيقى تقليدية يضاف إليها كلاسيكي غربي ممزوج بالجاز. تلك المكملات الفرعية الأساسية تتعايش معاً في تداخل كامل وهي تتبادل خواصها لنسج النموذج النهائي.

وبخصوص الشعر الحر الياباني تبدو هناك حيادية تامة. لقد مثل اتجاه "التانكا" تاريخيا ذلك الشعر الذي نشأ في أحضان البلاط الإمبراطوري، ثم جاءت بعده حركة "الهايكو" أن الأشكال الثلاثة من الشعر يمكن أن تتواجد جنباً إلى جنب دون تعارض يذكر. إن الشعر الياباني الحديث يملك شكلا متفرداً, كما أن الشعراء اليابانيين يبتكرون ما يخصهم من الأصوات والقوافي والأشكال, وكذلك المضامين.

الشعر الياباني الحديث شعر حرّ, وكل شاعر يبحث عن الشكل الخاص الذي يناسبه. ومع أنه مقتطع من التعابير العامية، فهو كذلك يمكنه أن يتلمس صوراً رقيقة وواضحة زاخرة بالمشاعر الحسية وتداعي الأفكار لا يحكمها منطق محدد, وإنما على ما يظهر بتخيل اعتباطي، وهذا التداعي في الأفكار والصور إذا كان بوسعه أن يمتلك شيئاً من التماسك أو قوة التحمل، تلك هي الفكرة الرئيسية التي يقوم عليها الشعر الياباني المعاصر:

الكلمات في أغنيتي مشحونة

بمغناطيسية دائمة

نافذة في كل شيء

فهي لا يمكنها إلا أن تجتذب كل من

يريد أن يكون إنساناً

أود أن أصدق هذا

لكن لكلماتي حدوداً دقيقة

تخفي وراءها

الظلمة والنور

الخير والشر، الجمال والحقيقة...

النوّ- الكابوكي

الكابوكي "Kabuki" هو عبارة عن فرجة مسرحية رائعة تمثل نموذج المسرح الياباني التقليدي, وقد كان أساس وأصل الشكل الشعبي للتمرد على النظام الاجتماعي, ولم يتحول إلى مسرح كلاسيكي إلا في مرحلة متأخرة. ومع أنني درست الأدب الياباني وبشكل خاص مسرح النوّ- الكابوكي، لكني وجدت نفسي ذات يوم في الولايات المتحدة وجهاً لوجه مع أحد العروض المسرحية الخاصة بذلك المسرح. النوّ- الكابوكي واحد من الفنون العظيمة القليلة التي لا تزال تعيش في العالم حتى اليوم, وإنها لتجربة تبهر الأبصار بالنسبة لرواد المسرح الغربيين وهم يجلسون في مسرح الكابوكي ليشهدوا سلسلة مسرحيات غربية. ذلك المسرح العريق يمتلك كل أنواع الإثارة المسرحية.

بدأ العرض المسرحي على النحو الآتي: "في مسرح الكابوكي يتحول الجزء الأمامي من خشبة المسرح إلى مساحة فسيحة يبلغ عرضها سبعين قدماً, مضاء بالأنوار الباهرة ومليء بكميات من المناظر ذات الأبعاد الثلاثة: أشكال أشجار كرز, وزوارق, وجسور, ونهر غير عميق يمتد في العمق, تسبح فوق أمواجه أسراب من الطيور مرسومة بالألوان، منازل تظهر حولها الحدائق ومزودة بالأرضيات المصنوعة من الورق. وكل هذه المناظر موضوعة أمام أعين المشاهد على خشبة المسرح الضخمة المتحركة.

قسم اليابانيون مساحة المسرح بشكل غير تقليدي, عبر الجانب الأيسر في صالة المسرح ثمة ممر يطلق عليه ممر "إلهانا ميشي" أو ممر الزهور، وهو منصة تمتد من خشبة المسرح إلى مؤخرة الصالة, تلك المنصة والممر تستخدمان في دخول الممثلين وخروجهم أثناء مجريات العرض المسرحي. ومع أن ذلك المسرح غير مخصص لنمط أو نوع معين من المسرحيات, فهو يقدم الكوميديا وكذلك التراجيديا، وأيضا العروض الراقصة، تلك التي تبهج رؤيتها أعين النظارة لكونها تتضمن شيئا من الفلكلور الشرقي الساحر، تلك العروض تحطم حاجز اللغة وتأسر الأذهان والعيون الأجنبية.

في ذلك العرض وعروض أخرى شاهدتها فيما بعد وجدت أن الذي كنا نعرفه عن هذا المسرح قليل جداً، هناك دائماً أصوات مؤتلفة منسقة تضفي التأثير المطلوب والمؤثر على مسرحيات الكابوكي، أصوات قرقعة العصي الخشبية يراد منها الإشارة إلى رفع الستارة، ولا محاذير على ارتفاع أصوات استحسان المشاهدين أثناء العرض المسرحي تقديراً لممثل اندفع ليجيد أداء دوره ويتميز على رفاقه. الإشارات والحركات والصوت، تتداخل مع أصوات القيثارات التي تصاحب جانباً كبيراً من الحركة على المسرح، أصوات الممثلين المقلدة والرفيعة خاصة لدى الذين يقدمون أدوار النساء، والحق أن تأثير الكابوكي في جملة عروضه المسرحية تأثير مذهل إلى درجة تلغي جميع الاستعدادات المسرحية الضخمة التي يتميز بها العرض التقليدي.

الإشارة الأولى

المونوغراف الذي رافق العرض المسرحي ثبت بعض المعلومات، وجدت فيه إشارة تقول أن أول عرض ظهر في قصة التاريخ القديم لليابان، التي تضمنها كتاب يطلق عليه اسم "الكوجيكي", أي سجل الأحوال المدنية, والذي يعود عهد كتابته إلى سنة 712 ق.م، ويعتبر الدارسون المؤمنون بهذا التاريخ الأسطوري هذه الإشارة الأصل الروحي الطبيعي لكل أنواع العروض المسرحية اليابانية، فهي تصور حكايات كثيرة عن آلهة متعددة غريبة تنتضم في سلسلة الميثولوجيا اليابانية وهي تشمل ثلاث صور رئيسية من صور فن المسرح الياباني, يتجسد فيها العنصر العقائدي الخيالي الذي اقترن بمسرح النوّ الياباني والعنصر الساخر المميز لمسرح الكابوكي مع ملامح المسرح الحديث, وعنصر الرقص, وهو جزء حيوي أساسي في كل الفنون الدرامية اليابانية, وهذه العناصر الثلاثة ظلت متصلة بتاريخ المسرح في اليابان اتصالاً وثيقاً يختلف في قوته من درجة إلى درجة أخرى، ولم يحدث أن انفصل أحدهما عن الآخر تماما إلا في القرن التاسع عشر، عندما بدأت نهضة الدراما الحديثة, وذلك حين قوي الاتجاه للمطالبة بفصل الفنون السمعية الإيقاعية عن التمثيل، وكان ذلك بمثابة فصل الخيال عن الطبيعة وعن العنصر الواقعي.

كما أن الدراما الحديثة تميزت بابتعادها عن الذاتية. وقد استغنت تماماً عن العنصر الشهواني, وكان هذا السلوك إلى حد ما يشكل رد فعل ضد صدأ المسارح الكلاسيكية وابتذالها. إن الرقص البدائي الأول الذي يشكل ممارسة الصيد والرعي هو تماماً متوارث عبر العصور ويشكل الأساس في تكوين ونشأة أغلب الاتجاهات في المسرح الياباني, ومن تلك الطقوس والفعاليات ما يسمى "الكاجورا", والتي تعتبر ذات صلة مباشرة برقصة "اوزومبي" الأصيلة, وهي أساسا تمثيل للرقصة الدينية أمام آلهة الشمس. تعني لفظة "كاجورا" موسيقى الآلهة, وهي جزء من تلك القصيدة التي تمزج بين الميثولوجيا وبين نظام الحكم الإمبراطوري. ويعتقد "فابيون باورز" أن رقصة أخرى مهمة هي الباجاكو ظهرت عندما وصلت العلاقات بين اليابان والصين في القرن السابع الميلادي إلى مستوى دبلوماسي وفني رائع.

كان الكثيرون من المبعوثين اليابانيين يعودون إلى بلادهم من الصين وهم يحملون معهم الشيء الكثير, ومن بين ما نقلوه تلك الفنون المهمة. إن ما يميز الباجكو أنها فن من الفنون الرجولية الجريئة، وقد اتخذ هذا الشكل من الفنون شكلاً ملوكياً فخماً. وكذلك هناك الكثير من المظاهر العقائدية والأشكال الأجنبية المستوردة، تلك التي تبناها النبلاء وبسطوا عليها رعايتهم, وقد صارت تتبلور وتأخذ أشكالاً محدودة, وهي ذات صلة وثيقة بالأرض احتفالاً بزراعة الرز والألعاب السماوية, كما أضيف إليها نوعاً من الشكل القصصي والتعبير الصامت, مع التركيز على العرض والفكرة والنصائح الأخلاقية التي يلقنها الكهنة.

ويعتبر مسرح النو من أشكال التعبير القديمة التي اعتبرت فيما بعد تكوينات مسرحية ذات قواعد أدبية, وهذا المسرح يعني المهارة والكفاءة, وتشمل خمسة أنواع مثل الإله والأشباح والمحاربين ومسرحيات النساء والمجنونات والشياطين، واللغة فيه غير واضحة, حتى للمتعلمين من أبناء اليابان لقدمها في المقام الأول, ونتيجة لأسلوب الغناء الذي تقدم به, والحوار فيها نوع قديم من الكتابة الشاعرية كان يستخدم أساساً في كتابة الرسائل والوثائق التي تتطلب فخامة خاصة في التعبير والتراكيب اللغوية. وكل الأدوار يلعبها رجال, وحين يقومون بلعب أدوار النساء فإنهم يتحدثون بنفس أصواتهم, والنساء الشياطين والأشباح تظهر مقنعة, وأقنعة النوّ أصغر بكثير من غيرها, وتغطي مساحة الوجه نفسه فقط, والممثلون الذين لا يضعون الأقنعة على وجوههم يظهرون على المسرح دون أي ماكياج, وتستخدم باروكات الشعر في الأدوار التي تتطلب الأقنعة وأدوار الأباطرة والشخصيات الرفيعة يقوم بأدائها صبية صغار والملابس دائماً ذات ألوان باهرة مطرزة تطريزاً فخماً وموشاة بالفضة والذهب، وينتعل الممثلون جميعاً صنادل بيضاء ذات أحزمة مضفرة.

إن للرموز قدرة على إثارة العالم القائم وراء الحواس وكشف العناصر الداخلية للإيقاع والنمط اللذين يميزان شكلاً حياً. إن الرمزية دائماً تشكل مادة وأسلوب الأدب والفن. يقول الشاعر والكاتب "ييتس": ونحن نشاهد النو أو الكابوكي نشعر أن عقولنا تتسع بشكل مفاجئ أو تتنامى ببطء لتصبح بحراً مزدحماً بالصور، متلألئاً بضوء القمر. لقد اكتشف ييتس الدراما الشرقية، ففي مقالته بعض المسرحيات اليابانية الرفيعة. يقول أنه اعتمد على مسرحيات يابانية قام بترجمتها أرنست فينولوسا وأكملها عزراباوند. يذكر في مذكراته: "لقد ابتكرت شكلاً درامياً متميزاً ومباشراً ورمزياً، إنه شكل لا يحتاج إلى جمهور أو صحافة ليشق طريقه". درس ييتس مسرح النوّ مع أنه لم يشاهد أيا من عروضه. كان متمكناً من طقسيته الشديدة وعناصره الموسيقية ورقصاته وشعره بشكل مفعم بالحماس، وفي ذلك توحيد يلهب مشاعر الرمزيين. يقول ييتس: "من الطبيعي أن أذهب إلى آسيا للتعرف على مكونات الخشبة والوجوه الأكثر شكلانية والكورس الذي لا ينخرط في الحدث، وربما على حركات الجسد المأخوذة من عروض الدمى المتحركة التي عرفت في القرن الرابع عشر".

لقد صار ييتس مأخوذاً بالجانب التبسيطي في مسرح النوّ بشكل خاص، لم يكن يعتبر ذلك مجرد اقتصاد، وإنما طريقة لكشف بعض أهمية صوت الممثل والشعر الذي ينطقه. وفي أشكال أخرى من العرض كانت المسرحية تبدو خلف الستارة, حيث يعمل التباين بين الضوء والظلام والبعد ما بين الجمهور والممثل على إلغاء الألفة في المسرح، قناع نصف إغريقي ونصف آسيوي، بعد عن الحياة يمكنه من جعل الأحداث الغريبة المعقولة, كلمات جميلة، عالم ساحر جميل يتداخل فيه الفلكلور بالكلمة بالإيقاع بالحركة.

يرتدي الممثلون أقنعة ويقلدون الدمى في حركاتهم، حركة سريعة أو بطيئة ثم سكنه قصيرة أو طويلة، وبعدها حركة، يغنون بقدر ما يتكلمون، وهناك كورس يصف المشهد ويترجم أفكارهم دون أن يصبح المسرح الإغريقي جزءاً من الحدث. وعند الذروة يكون هناك بدلاً من عاطفة الطبيعة المضطربة رقصة أو سلسلة من الوضعيات والحركات التي يمكن أن تمثل معركة أو زواجاً، أو آلام شبح في مطهر بوذي، وهم يؤكدون أنه لا يجوز الاهتمام للشكل البشري, وإنما للإيقاع الذي يتحكم به، ويتجلى نجاح فنهم في قدرتهم على التعبير عن هذا الإيقاع في شدته. هذا التغريب الذي ترسخ كخيار صار مجبراً على الصعود في وجه عالم رافض له.

وكمحاكاة لمسرح النوّ- الكابوكي كتب ييتس مسرحية "عند بئر الصقر", وقد عرضت عام 1916 بشكل مطابق تماماً لمسرح النوّ, وكانت مسرحية شعرية قصيرة مكتوبة بمقاطع متماسكة قوية ومؤثرة وبسيطة، وكان الحدث فيها لا واقعي شبيه بالحلم. ولكن ت.س.اليوت في كتابه "الشعر والدراما" يرى أن تلك المسرحية لم تقدم حلاً لمشاكل كاتب الدراما الشعرية الحديث.

المصادر والهوامش

- دراسة للكاتب نشرت في جريدة الوطن الكويتية في 15/ 10/1979.

- المسرح الياباني- فوبيون باوزر- ترجمة سعد زغلول نصار- المؤسسة العامة للتأليف والترجمة.

- المسرحية العالمية- الادرس نيكول- ترجمة د. شوقي سكر.

-الحياة في الدراما- أريك بنتلي- ترجمة جبرا إبراهيم جبرا- المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

- حوار مع الروائي الياباني "كنجي نكجامي- مجلة الآداب العالمية- العددر 92-1997.

- اتجاهات الشعر العالمي المعاصر- عدد من المؤلفين- ترجمة الأستاذ عادل العامل- منشورات وزارة الثقافة- سوريا.

- الدراما الحديثة بين النظرية والتطبيق- ج. ل. ستيان- ترجمة الأستاذ محمد جمول- وزارة الثقافة- سوريا.

-مسرح "نو" الياباني- عشر مسرحيات مختارة- زيامي موتوكيو وآخرين- ترجمة جميل الضحاك.
http://www.alazmina.info/issue288/13.html   فن

0 Comments:

Post a Comment

<< Home