اليابان

تتناول المدونة ما يتعلق باليابان. ونرحب بتعاون الزوار في تقديم المقالات والأخبار ضمن هذا الإطار وتصحيح الأخطاء اللغوية فيها بالإضافة إلى ترجمات نصوص يابانية أو إنجليزية سنختارها Al-Yaban blog presents articles and news on Japan in Arabic with cooperation of its visitors. アラビア語による日本専門ブログ。投稿歓迎

2008/04/18

أدب انبثق من رحم المأساة  اليابان الحديثة من خلال روائييها

日本の近代文学

بقلم / حسونة المصباحي

كانت بدايات القرن التاسع عشر بمثابة المنعرج الخطير فى تاريخ اليابان. فقد انفتحت البلاد التى تشرق منها الشمس على العالم الغربى انفتاحا كاملا، حيث أخذت تستورد منه التكنولوجيا وأيضا النظم والمذاهب الفلسفية والفكرية والعلمية. وخلال مرحلة الانفتاح هذه شهدت الثقافة اليابانية تطورات مختلفة.

لكن قبل هذا، وتحديدا خلال القرن الثامن عشر، برز فيلسوف وناقد يدعى نوريناغا موتووري.
本居宣長
وفى ذلك الوقت كانت اليابان تعيش عزلة شبه تامة عن العالم الخارجي. وكانت "الكونفوشيوسية الجديدة" الفلسفة الرسمية للبلاد. غير أن موتوورى عالج المسائل الفكرية الفلسفية بطريقته الخاصة وذلك من خلال أبحاث لغوية خصصها أساسا للآثار الكلاسيكية التى سبقت المؤثرات الصينية والهندية. وهو فى هذا الجانب شبيه بنيتشه الذى قام بنفس العمل تقريبا للنصوص المسيحية وأيضا للنصوص السابقة للسقراطية.

لذا بإمكاننا أن نقول إن أعمال موتوورى كانت بمثابة "اصل الأخلاق" "عنوان كتاب لنيتشه" داخل الكونفوشيوسية والبوذية. وكان هدف موتوورى من خلال أعماله كلها أن يبين للمثقفين اليابانيين الذين يفكرون "صينيا" ويكتبون بالحروف الصينية "ماهو الحقيقي".وكان هؤلاء يتنكرون فى أغلبهم للآثار اليابانية القديمة. وربما لهذا السبب يمكن اعتبار هذا الفيلسوف والناقد الكبير، أى موتووري، أبا النهضة اليابانية وأول من وعى وعيا حادا بجوهر النقد وسلك منهجا مغايرا تماما لما كان سائدا فى الأوساط الأدبية والفكرية آنذاك. غير أن مرحلة الانفتاح الحقيقى بدأت فى عصر حكم "الميجي" عام 1867.

وبعد مرور عشرين سنة على تسلم "الميجي" السلطة السياسية برز آنذاك ما سمى بـ"تحديث الأدب الياباني". وفى ظرف عشر سنوات تقريبا تشكل تيار جديد أحدث انقلابا شاملا فى المفاهيم والرؤى. وبذلك أصبح المثقفون اليابانيون يعالجون نفس المسائل السائدة فى الغرب آنذاك.

وأهم كاتب فى هذه المرحلة كان "اوغاى موري".
森鴎外
وحتى وإن كانت هذه المرحلة قد تميزت بظهور ما يسمى بـ"رواية الأنا" فإن هذا الكاتب أبرز فى جل أعماله "غياب الأنا". وهو يقول: "أعتقد أن الموت هو اختفاء هذه الأنا" التى هى مجموعة الخيوط المجذوبة فى اتجاهات مختلفة.

منذ طفولتى أحببت الروايات. وعندما تعلمت بعض اللغات الأجنبية، أصبحت أقرأ كثيرا من الروايات الغربية. وفى أية رواية يبدو اختفاء هذه "الأنا" من أشد الآلام وأكبرها.
ولكنى لا أعتقد أن اختفاء "الأنا" يمكن أن يسبب ألما. إذا ما نحن متنا بطعنة سكين، فاننا نحس ألما جسديا حادا. وإذا ما نحن متنا بسبب مرض أو بسبب دواء، فإننا نتألم أيضا، أما إذا فقدنا "الأنا" فإنه ليس هناك أى ألم".

وكانت جل أعمال مورى مضادة للرومانسية فى مجملها. وشخصياته خالية من أى عالم داخلي. وهى شبيهة فى ذلك ببعض قصص همنغواى القصيرة.

ومثل تانيزاكى 谷崎潤一郎
المولود عام 1886 علامة مهمة فى الرواية اليابانية فى مرحلة بروزها.
وكانت موضوعاته الأساسية تتمحور حول الانحراف الجنسى وحول الشكلانية والكلاسيكية.

وكان تانيزاكى فى الرابعة والعشرين من عمره عندما أصدر اقاصيصه الأولى التى حملت عنوان: "الوشم". وبعد أن دمر منزله فى طوكيو بسبب الزلزال الكبير، وكان ذلك عام 1923، خيّر تانيزاكى الاستقرار فى مدينتى "كيوتو" و"أوزاكا" اللتين ستصبحان فى ما بعد الديكور المحبب لرواياته. وأول شيء يشغل هذا الكاتب هو الثقافة اليابانية الكلاسيكية وفنونها وعاداتها.

والشخصية الرئيسية فى روايته الأولى الصادرة عام 1925، والتى حملت عنوان: "حب الأبله" فتاة مفتونة بالموضة الغربية، مستلذة وصاحبة نزوات غريبة يقع فى حبائلها موظف بسيط وتافه يضحى بحياته من أجلها، ويتقبل العلاقات المازوشية والسادية فى نفس الوقت. والخلفية الفكرية لهذه الرواية العاطفية هى تطور اليابان والتقلبات الثقافية التى بدأت تشهدها فى أوائل القرن العشرين بسبب اصطدامها بالغرب وبالحضارات المغايرة.

وفى عام 1928، صدرت رواية تانيزاكى الثانية، وكانت بعنوان: "مانجي". والشخصيات الرئيسية فيها، رجلان وامرأتان "سونوكو" تقع فى حب "ميتسيكو" البورجوازية الجميلة التى تلتقى بها فى معرض من معارض الرسم. وشيئا فشيئا تغوص هذه المرأة الجميلة فى عملية شيطانية صحبة زوجها ورجل آخر عاجز جنسيا ومخنث. ومن خلال هذه العلاقة الغريبة بين امرأتين ورجلين، يحاول تانيزاكى الكشف عن العقد الأشد فظاعة فى المجتمع اليابانى الجديد. وفى روايته "مذاق الحريق" الصادرة عام 1929 يصوّر تانيزاكى تمزق الحياة اليابانية وأزماتها من خلال علاقة رجل بزوجته.

وفى رواية "الأمير موزاشى السرية" يمتزج الانحراف الجنسى بالرعب. وتدور الأحداث أثناء حصار تم خلال القرن السادس عشر، البطل يشاهد رأس امرأة قطع أثناء المعركة فيتذكر نساء فى طفولته كنّ يبرزن رؤوس الأعداء ويعبثن بها. وطوال حياته، يظل هذا الرجل يصارع من أجل نسيان ما رآه فى الماضى وفى الحاضر. وفى روايته "يوميات شيخ مجنون" يصور تانيزاكى جحيم العجز الجنسى من خلال شيخ يتأمل فتاة جميلة. وإلى جانب براعته الروائية، يتميز هذا الكاتب بإلمام كبير بالثقافة اليابانية الكلاسيكية، وبمعرفته الدقيقة بتاريخ اليابان القديم. ويعتبر كتابه "لبلاب أشينو" أحسن مثال على ذلك.

ويعتبر "اكيتاغوا"  ملاحظة مدير المدونة / اسمه المكتوب هنا غير صحيح, والصحيح آكوتاغاوا
芥川龍之介
واحدا من ألمع الكتاب اليابانيين فى بدايات القرن العشرين. وقد فضل هذا الكاتب الانتحار فى ليلة قائظة من ليالى صيف عام 1927 وهو فى الخامسة والثلاثين من عمره. ورغم ذكائه وشهرته، فإن "اكيتاغوا" كان يتعذب ويتألم، وكان دائم التشكى من الحياة. وقبيل انتحاره بفترة وجيزة، قال لأحد أصدقائه: "سأموت بسبب خوف غامض من المستقبل". وكان "أكيتاغوا" قد بدأ يكتب وهو فى سن الخامسة عشرة. ومنذ البداية، أصبح مشهورا ولمع اسمه فى الحلقات الأدبية والفنية فى طوكيو.

والذين عرفوه فى تلك المرحلة من حياته يقولون إنه لم يكن يغادر المكتبة. وكان طوال الوقت محاطا بمؤلفات الكتاب الغربيين الذين كان مفتونا بأعمالهم. وكان يردد دائما وهو فى نشوة شديدة: "الحياة كلها لا تساوى بيتا شعريا واحدا من أبيات بودلير". وأشهر رواية كتبها فى بداياته، تلك التى حملت عنوان: "راشمون" التى حولت فى ما بعد إلى فيلم لاقى شهرة عالمية واسعة. وفى سنة 1918، أصدر "اكيتاغوا" "ستار الجحيم" وفيها كشف عن العلاقة اللامرئية بين الفن والشر. وأغلب القصص التى كتبها تشبه قصص ادغار الن بو. وهى تمتلئ بالفجيعة والعنف، ومكتوبة بأسلوب جذاب يعتمد الجملة القصيرة المتوترة. وفى بعض الأحيان يبدو "اكيتاغوا" شبيها بكافكا. فهو مثله شديد التشاؤم. وتشاؤمه يجعله قادرا على الغوص فى أعماق الحياة وفهم عذاباتها إلى حد الاحتراق بها.

وتتسم حياة "دازاي"
太宰治
المولود عام 1909 الذى انتحر هو أيضا عام 1948، بالاضطراب والتشاؤم واليأس. وفى كل أعماله تهزنا صرخة عميقة فى "وادى الحياة" على حد تعبير شاعرنا أبى القاسم الشابي. وتعكس هذه الأعمال معاناة فنان دقيق الاحساس، عانى من قسوة الحياة والناس على حدّ السواء. وكان "دازاي" لا يزال تلميذا عندما حاول الهروب من واقع مقيت فى احدى مقاطعات اليابان الشمالية.

ولما استقر فى العاصمة طوكيو، عاش حياة بوهيمية وتزوج من نادلة تعمل فى البار الذى كان يرتاده يوميا. وفى تلك الفترة تنكرت له عائلته المحافظة بسبب أفكاره المتعاطفة مع الشيوعية. غير أن غرامه بالماركسية لم يدم طويلا إذ سرعان ما تنكر لها وكتب اعترافاته أمام الشرطة. وقد زاد ذلك فى تعميق جرحه وشعوره بفظاعة الحياة وبفداحة الذنب. وبذلك أصبحت الكتابة ملجأه الوحيد، فراح يكتب ويكتب رغم اليأس والعذاب.

ومرة حاول الانتحار غير أن الحبل الذى كان ينوى أن يشنق به نفسه تقطّق. بعدها تزوج ثانية غير أنه لم يلبث أن طلق وبسبب الحياة القاسية التى كان يعيشها أصيب "دازاي" بالسل، فازدادت أوضاعه النفسية تدهورا. وفى ليلة من الليالى الممطرة، سكر "دازاي" حد التلف وراح يتسكّع فى شوارع طوكيو، وفى الحقول الفارغة، وأثناء ذلك سقط فى أحد الأنهار. وبعد ذلك بستة أيام، وتحديدا يوم 19 حزيران/ يونية 1948، عثر على جثته مشوهة تماما. وهكذا أسدل الستار على حياة كاتب من أكثر الكتاب اليابانيين رقة واتقانا فى تصوير تراجيديا الحياة، وأزمات الواقع اليابانى فى النصف الأول من القرن العشرين.

وأما كواباتا
川端康成
المولود عام 1899 والمتوفى عام 1972، فكان أول كاتب يابانى يفوز بجائزة نوبل للآداب وذلك عام 1968، وتتمحور أعماله كلها تقريبا حول الثنائية التى يعيشها المجتمع اليابانى المعاصر، والصراع الحاد بين الأصالة والتفتح على الغرب. وشيئا فشيئا لم يعد كواباتا يتحمل هذه الثنائية وهذا الصراع. وربما لهذا السبب فضل الانتحار فى النهاية.

وفى البداية، عاش هذا الكاتب حياة قاسية. فقد توفى والده بسبب داء السل وهو لم يبلغ العام بعد. وقبل مرور سنة واحدة على ذلك، توفيت والدته بنفس المرض. وكان فى سن الخامسة عشرة لما توفى جده، فكان عليه أن يواجه الحياة وعواصفها وحيدا ومن دون سند. وفى عام 1921 أسس كواباتا مجلة "الفكر الجديد". وفى سنة 1943 حصل على أكبر جائزة يابانية. ومنذ ذلك الحين لمع اسمه فى سماء الأدب اليابانى والعالمي. وعند صدور روايته "سرب الطيور البيضاء" وذلك عام 1952، أجمع النقاد على أنها أفضل كتاب صدر فى اليابان فى تلك السنة. وفى عام 1968 منحته الأكاديمية السويدية جائزة نوبل للآداب لروايته "بلاد الثلج" التى أمضى اثنتى عشرة سنة فى كتابتها. و"بلاد الثلج" هى منطقة "بنيغانا" الواقعة على البحر الياباني.

الشتاء قاس فيها، واليابانيون يحسون هناك بالوحدة والصمت أكثر من أى مكان آخر. بطل الرواية يدعى "شيماميرا"، وهو رجل من طوكيو، عاطل عن العمل، يذهب إلى "بلاد الثلج" ليلتقى بـ"كوماكو" وهى فتاة تعمل فى احدى المحطات الاستشفائية فى تلك المنطقة. وخلال الرحلة يلتقى "يوكو" التى كانت بصحبة رجل مريض كانت ترعاه باهتمام كبير. ومن أول نظرة، ينجذب "شيماميرا" الى تلك الفتاة الرقيقة الجميلة.

وبين المرأتين المذكورتين يأخذ بطل الرواية فى البحث عن ذاته. "كوماكو" تجذبه بجسدها الفاتن، ويوكو بجمالها الخفى الذى يفجر كامل جسدها مثل نور غامض. وهذه العلاقة المثلثة تؤدى إلى نهاية تراجيدية. ففى آخر الرواية، يندلع حريق هائل، فتحترق "يوكو" ويفترق "شيماميرا" و"كوماكو" إلى الأبد. ولا يتبقى سوى الألم العميق والموت من أهم المواضيع التى تطرق إليها كواباتا فى جل أعماله الروائية.

والموت عنده ليس موت الأشخاص، بل موت الحب الذى يجمع بين كائنين وقليلة هى الروايات التى لا تنتهى بمأساة وبدمار شبه كامل. والجمال وحده يظل الجواب على فشل الموت. وفى روايته البديعة "الجميلات النائمات"، يكتشف الشيخ "ايغوشين" خلال زياراته الخمس إلى بيت مغلق، أجساد فتيات عذارى يقع تنويمهن ويأتى الشيوخ العاجزون جنسيا ليتذكروا سنوات شبابهم. ويسهب كواباتا فى تصوير جمال تلك الأجساد حتى يحس القارئ بفظاعة الانحلال والموت.

وفى قصة "البحيرة" يجد "موموى غمبي" متعة فى ملاحقة النساء الجميلات وهذه الملاحقة المستمرة هى سلواه الوحيدة التى تنسيه التشوه الجسدى الذى أصيب به عند ولادته. إن "موموي" هو رمز البشاعة. وقد اهتم كواباتا أيضا بالتقلبات الاجتماعية والسياسية والفكرية التى عاشتها اليابان خلال القرن العشرين. وينعكس ذلك بصفة واضحة فى روايته "كيوتو" التى هى عاصمة اليابان القديمة. وقد تأسست هذه المدينة فى عصر "هينان" الرائع وكانت مهد الحضارة اليابانية ومنبع تقاليدها الخالدة، وهى مشهورة إلى حد هذا الوقت بصناعاتها التقليدية وبحريرها وأزهارها. وفى بداية الرواية، تلتقى فتاتان فى أحد شوارع "كيوتو".

وسرعان ما تكتشفان أنهما توأمان. وفى ذلك الوقت، كانت المدينة تمرّ بفترة تحوّلات وتغيرات اجتماعية واقتصادية. وكانت المحلات التجارية المتخصصة فى بيع الأشياء القديمة قد بدأت تعرف الكساد والخيبة. وشيئا فشيئا يبدأ جيل جديد فى الصعود. جيل متمرس بالرأسمالية الصاعدة ومهووس بالغرب. وقد أراد كواباتا من خلال هذه الرواية ادانة هذه التغييرات التى شوهت المجتمع اليابانى وأفقدته رقته وتقاليده الرائعة وأنسته تاريخه المجيد. وفى الخطاب الذى ألقاه فى الأكاديمية السويدية بمناسبة فوزه بجائزة نوبل، قال كواباتا: "الثلج والقمر وأشجار الكرز المزهرة، كلمات تعبّر عن جمال الوصول وتمتزج الواحدة بالأخرى لتعبر عن تقاليد اليابان الرائعة وعن جمال جبالها وأنهارها وأشجارها، وعن آلاف المظاهر التى تتجسد فيها الطبيعة وأيضا الأحاسيس البشرية المتنوعة".

وقد اختار يوكو ميشيما   ملاحظة المدير نطقه الصحيح يوكيو ميشيما
三島由紀夫
الانتحار هو أيضا. وكان ذلك يوم 25 نوفمبر/ تشرين الثانى 1970. وقد لفت هذا الانتحار القراء والنقاد فى جميع أنحاء العالم إلى الأدب الياباني، وجعلهم يندفعون أكثر من أى وقت مضى لاكتشافه والتعرف عليه. بالإضافة إلى هذا، شكل هذا الانتحار الذى تمّ بشكل مسرحى حدثا كبيرا فى اليابان بأسرها، وهز الرأى العام هناك. وكان عبارة عن احتجاج عنيف ضد التحولات الخطيرة التى دمرت بحسب ميشيما كيان المجتمع الياباني، وقضت على جوانب مشرقة من حضارته القديمة، ومقوماته الروحية. وإلى حد هذه الساعة، لا يزال مؤرخو الأدب اليابانى يهتمون بحياة ميشيما، محاولين تحليل دوافع الانتحار، وأسبابه، متوقفين طويلا عند الطريقة العنيفة التى تم بها.

وقد ولد ميشيما فى العاصمة طوكيو فى 14 يناير/ جانفى 1925. وكان والده موظفا وابن حاكم "كارفيتو" الذى اضطر إلى الإستقالة عقب خطأ ارتكبه أحد معاونيه، وكان ميشيما فخورا بجده، غير أنه لم يكن يحب الحديث عن جذوره الزراعية. وكان يفضل الاشارة إلى عائلة جده التى تنتمى إلى طبقة "الساموراي". ومنذ البداية عشق ميشيما الكلمات والشعر. وفى سنة 1942، وكان فى السادسة عشرة من عمره كتب ميشيما أول عمل أدبى هام حمل عنوان "الغابة المزهرة". وهو يتسم بشاعرية عالية، ومكتوب بأسلوب جذاب، وموضوع هذا العمل حكاية شيخ يعيش فى قرية نائية ليس له فيها عائلة ولا آثار لماضيه. وهو يمضى الوقت فى تأمّل وقائع حياته. وهو يقول: "لنا أجداد كثيرون. يحدث أن يكون هؤلاء فى أعماق أعماقنا تماما مثل الذكريات الرائعة، ويحدث أيضا أن يظلوا بعيدين بعدا مؤلما. أجدادنا يأتوننا عبر طرق عجيبة أحيانا. البعض يشك فى ذلك. ولكن تلك هى الحقيقة"!. ومثل أجداده، كان ميشيما يعشق البحر والجنوب، وله اهتمام كبير بجسده وبأناقته. ويبدو ذلك واضحا فى ثلاثيته الرائعة "البحر المخصب".

وكان ميشيما على عتبات سن الشباب لما أحب الأدب اليابانى الكلاسيكي. لذا درسه بعمق وبحب. وقد أعجب بصفة خاصة بمرحلة القرون الوسطى، أى مرحلة الحروب التى تشبه إلى حد ما المرحلة التى ظهر فيها جيله. وفى عام 1946، أدى ميشيما زيارة إلى كواباتا ومعه نسختان من قصتين قصيرتين تحمل إحداهما عنوان "السيجارة" وهى تصور وضعية طفل يدرس فى أحد المعاهد ويحس أنه غير منسجم مع رفاقه الذين يحبون الرياضة ويهتمون كثيرا بأجسادهم. وذات يوم، يلتقى هذا الطفل بأحد أقرانه وهو يدخّن. وأول سيجارة يدخنها سوف تجعله يحس بالذنب وبالألم وبالخوف من أن ينكشف، وتعلم ادارة المعهد بالجريمة التى اقترفها، فتسلط عليه عقابا قاسيا.

وفى عام 1948، أصدر ميشيما رواية عنوانها "اللصوص" وقد كتبها تحت تأثير قراءته لرواية الفرنسى رايمون راديغات الذى توفى قبل أن يكمل سن الخامسة والعشرين. وفى ذات السنة قدم استقالته من وزارة المالية رغم معارضة والده ليتلحق بمجموعة "الأدب الحديث". ولأن أعضاء هذه المجموعة كانوا من اليسار. فإن ميشيما ظل إلى حد ما معزولا ومهمشا. وقد حاول أحدهم اقناعه بضرورة الانتساب إلى الحزب الشيوعى غير أنه رفض تلك الدعوة رفضا قاطعا، بل إنه شعر برعشة عنيفة تهزه حين عرضه عليه. وكان خطابه ملتزما، غير أنه لم يكن يولى السياسة اهتماما كبيرا.

ورغم ميوله اليمينية، فإنه لم يتعاطف مع المجموعات الرجعية ولم يقترب منها اطلاقا، بل إنه هاجمها بحدة فى روايته "الجياد الهاربة". كما هاجم أيضا رجال الأعمال ومحترفى السياسة. وذات يوم، أعلن ميشيما أنه يعتقد أن الامبراطور معصوم من الخطأ. والامبراطور يمثل بالنسبة إليه اليابان برمتها وفى عام 1949، أصدر أول دراسة أدبية عن أعمال كواباتا الذى كان يعتبره أهم كتاب اليابان، وأعمقهم فى طرح المسائل المتعلقة بحضارة بلاده فى ماضيها وحاضرها. وفى هذه الدراسة التى كشفت عن موهبة نقدية عالية، حرص ميشيما على توضيح الفروق بينه وبين كواباتا. فبينما كان كواباتا يرى أن التقاليد اليابانية تتجسد فى النحت والفنون التشكيلية وصناعة الخزف، وأيضا فى الحدائق والفن المعمارى والتعليم الدينى لمعلمى "الزان" كان ميشيما يراها فقط فى ما يسمى بـ"جنجي" أى الروايات اليابانية القديمة. ولم يكن يبحث عن الجمال فى الماضى الياباني، وإنما فى الرب، وخاصة فى الحضارة الاغريقية القديمة. وبالنسبة لكواباتا كان الماضى هو الناحية الأنثوية فى الثقافة اليابانية. أما بالنسبة لميشيما فإن الماضى يتجسد فى الناحية الحزبية.

وحتى وإن أعجبا معا بنفس الشيء كما هو الحال بالنسبة لشعر "واكا" فإن كل واحد منهما كان يتلذذ بطريقته الخاصة. ونحن نعلم أن هوس ميشيما بالموت يعود إلى سنوات الطفولة الأولى. وفى روايته "اعترافات قناع" الصادرة عام 1946، يصور يأسه عندما أعلمته مربيته أن صورته المحببة – فارس على حصان أبيض- ليست سوى امرأة تدعى "جان دارك". وتعتبر رواية "اعترافات قناع" من أهم الروايات التى يكشف فيها ميشيما عن خفايا نفسه. وبالنسبة للنقاد هى قمة أعماله التى تصل إلى الاربعين مجلدا. ومع ذلك ظلت هذه الرواية غامضة بالنسبة للمعجبين به. ونظرا لجرأتها، فإن الناشرين الأمريكيين ترددوا فى نشرها فى البداية، غير أن اليابانيين قرؤوها كما لو أنها شهادة مؤثرة لطفل يعى وجوده شيئا فشيئا.

وكان هدف ميشيما من خلالها التخلص من الأشباح المخيفة التى تسكنه وأيضا الاعتراف، بكل ما طبع طفولته وشبابه الأول من أحاسيس غامضة ومفزعة.

وفى عام 1950 نشر ميشيما روايته الأخرى "عطش الحب" قائلا بأنه تأثر فيها بالروائى الفرنسى فرانسوا مورياك. والموضوع الأساسى فى هذه الرواية هو تمزق الكاتب بين ماضى اليابان الرائع والحضارة الغربية. أما الموضوع الآخر فهو قرار كاتب يابانى متأثر باوسكار وايلد وبرايمون راديغات وبفرانسوا مورياك وبدستويفسكى وبتوماس فان أن يموت على طريقة "الساموراي". فى عام 1951، قام ميشيما بأول رحلة إلى الخارج. وقد زار خلالها اليونان التى كان معجبا بها منذ سنوات الطفولة. وفى روايته "صخب الأمواج" يبدو تأثير الحضارة اليونانية القديمة واضحا وذلك من خلال حضور أساطيرها.

أما رواية "الجناح الذهبي"
金閣寺
فإن النقاد يعتبرونها واحدة من أهم الروايات اليابانية فى القرن العشرين. وقد بذل فيها ميشيما جهدا عظيما إذ تمكن من طرح موضوع فلسفى عميق. غير أن رواية "بيت كيوكيو" التى أصدرها عام 1959، منيت بفشل ذريع حتى أن ميشيما أصيب بصدمة نفسية حادة. ولكى ينسى اخفاقه لعب دور "الصعلوك" فى أحد الأفلام البوليسية.

ولم يلبث ميشيما أن أعلن عن إيمانه بالأفكار الفاشية. وكان ذلك فى منتصف الستينات من القرن الماضي. وقد حدث ذلك أمام الجمهور. وفى عام 1969، وخلال نقاش مع الطلبة الراديكاليين فى جامعة طوكيو، دعا ميشيما إلى ضرورة الانضمام إليه للدفاع عن الامبراطور. وقبل ذلك، وتحديدا عام 1968، كان قد أسس جيشا خاصا به بعد أن تدرب على حمل السلاح واستعماله فى القوات المسلحة. وهو يقول: "من بين معتقداتى التى لا يمكن أن تتزعزع، الايمان بأن كل شيخ قبيح أبدا، وإن كل شاب جميل أبدا، وأن حكمة الشيخ سوداء دوما، وإن أعمال الشاب نيرة دوما. وكلما تقدم الناس فى السن، كلما ازدادوا قبحا وسوءا".
وفى 25 نوفمبر/ تشرين الثانى 1970، انتحر ميشيما علنا، على طريقة الساموراي.

وبالنسبة للروائيين الجدد الذين بدأوا يبرزون انطلاقا من السبعينات من القرن الماضي، فإنه يمكن القول إنهم لا يختلفون كثيرا عن سابقيهم. ومثلهم تعكس أعمالهم الأزمات التى يعانى منها المجتمع اليابانى كمجتمع استهلاكى وصناعى متقدم. كما تحضر فى هذه الأعمال الأحداث والكوارث التاريخية الكبيرة مثل الحرب الكونية الثانية، ومأساة هيروشيما وناكازاكي. ويعتبر كانزابيرو اواى   نطقه الصحيح كينزابرو أوئي
大江健三郎
المولود عام 1935، والحاصل على جائزة نوبل للآداب أحد أهم الكتاب الذين عرفتهم اليابان عقب كواباتا وميشيما. وفى البداية كان متأثرا بالوجودية. وهذا ما يتوضح لنا من خلال القصص التى نشرها فى الخمسينات عندما كان لا يزال شابا. ثم شيئا فشيئا استقل اواى عن كل التأثيرات ليتفرد بأسلوب خاص جعله من أكثر الروائيين شهرة فى اليابان وفى العالم. وقد كتب عنه هنرى ميللر يقول: "إن اواى يابانى خالص. ورغم تمزّقه المستمر بين الأمل واليأس، فإن اعماله تقترب كثيرا من أعمال دستويفسكي. فهى سوداء، مفزعة، وتتميز بخيال ناري".

وأما أبرز الروائيين اليابانيين وأكثرهم حضورا على المستوى العالمى راهنا فهو هاروكى موراكامى
村上春樹
المولود عام 1949، وقد بدأ هذا الكاتب حياته متأثرا بالأدب الانجلو- ساكسونى وبموسيقى الجاز والبتلز.
ثم لم يلبث أن ابتكر لنفسه أسلوبا خاصا لفت إليه نظر النقاد، وسمح له بالفوز بالعديد من الجوائز الأدبية الكبيرة فى اليابان وفى العالم.

ومتحدثا عن نفسه يقول هاروكى موراكامي: "عندما كنت مراهقا كنت أستمع إلى "البتلز"، و"الدوورس" وكنت أقرأ كتبا أمريكية، خصوصا روايات الخيال العلمي. باختصار، كنت أسبح فى موسيقى وفى أدب ما كان يسمى بـ"POP CULGURE" ".." أنا مختلف عن كواباتا وميشيما فى مجالات كثيرة، خصوصا فى مجال الاسلوب. إن نثرهم مشدود إلى الجمالية الشكلية. وهو نثر معقد، ومحمّل بكثير من الأحاسيس، ومثقل إلى حد ما بالبلاغة. بالنسبة لي، أعتقد أن الكتابة لابد أن تكون طبيعية، وبسيطة ومنسابة، وخالية من المحسنات البلاغية".

وعن رؤيته لليابان راهنا، يقول هاروكى موراكامي: "لقد شهدت اليابان تغيرات هامة خلال الثلاثين سنة الماضية. فبعد الحرب الكونية الثانية، كنا قد عملنا كثيرا لاعادة بناء البلاد وإعمارها. وكنا مستعدين لكل التضحيات. وكنا نعتقد أن العمل يؤمن لنا الثروة والرفاهية والسعادة أيضا، نعم.. هكذا كان اعتقادنا رغم أنه يمكن أن يبدو ساذجا. لهذا اندفع جيل والدي، والجيل الذى انتسب إليه بحماس فيّاض. وكانت النتيجة أن حصلنا على الرفاهية المادية، وذلك فى الثمانينات من القرن الماضي، أى فى فترة "الاقتصاد المتوحش".

وهكذا أصبحنا اثرياء، غير أننا لم نحصل على السعادة، بل أننا بدأنا نشعر بأننا ضائعون، وفاقدون للبوصلة إلى حد ما. لذا كان علينا أن نعيد النظر فى القيم التى كنا متشبثين بها حتى ذلك الحين. ولمواجهة هذه المرحلة العصيبة، رفعنا شعار: "لنكن سعداء!". ثم جاءت الأزمة الاقتصادية فى التسعينات. وأعتقد أنها كانت مفيدة لمجتمعنا إذ أنها دفعتنا إلى التفكير من جديد فى أوضاعنا المادية والمعنوية. وخلال العقدين الماضيين عرف الأدب اليابانى تقلبات وتطورات هائلة على جميع المستويات. فقد تهشمت القوالب القديمة سواء من ناحية الشكل، أو من ناحية الموضوع".

وفى النهاية، نحن نعتقد أن الذين يرغبون فى فهم اليابان فى مختلف تطوراته وتقلباته يمكنهم أن يجدوا فى روايات وأعمال الأدباء الذين استعرضناهم، ما يساعدهم على بلوغ ضالتهم وعلى النفاذ إلى قلب هذا المجتمع، أعنى بذلك المجتمع الياباني، الذى لا يزال يبهر ويحيّر الجميع، خصوصا نحن العرب، الطامحين إلى تحقيق "المعجزة" التى حققها رغم الكوارث التى ضربته خلال الحرب الكونية الثانية.

17 - 4 ثقافة

Labels:

0 Comments:

Post a Comment

<< Home