المزارع الياباني- الفيلسوف: "بالزراعة على الطبيعة يمكن إن نجعل الصحراء خضراء".
المزارع الياباني- الفيلسوف ماسانوبو فوكووكا福岡正信: "بالزراعة على الطبيعة يمكن إن نجعل الصحراء خضراء".
(الزراعة على الطبيعة Natural farming)自然農法 هي طريقة لا حاجة فيها إلى حراثة و لا إضافة الأسمدة و لا استعمال المبيدات الحشرية و لا إزالة العشب.
لستين عاما مضت عمل الياباني - المشهور باستناده إلى الزراعة على الطبيعة- على طرق استندت إلى نظرياته الفريدة و نفاذ بصيرته إضافة إلى فلسفته.
أول كتاب نشر له كان تحت عنوان (one-straw revolutionわら一本の革命), تمت ترجمته لاحقا-سنة 1975- إلى عدة لغات منها الإنكليزية و الفرنسية و الأسبانية و الصينية و الروسية و غيرها, و الكتاب لا يتحدث فقط عن الصفات
العملية للزراعة على الطبيعة بل عن الأسباب الرئيسية للتدهور البيئي. لقد ألهمت أفكار فوكووكا و فلسفته العديد من الناس حول العالم بلفت نظرهم إلى طريقة أخرى لعيش الحياة. هنا سنقدم لكم أفكاره و ما قام به من جهد عملي:
ولد فوكووكا عام 1913 في Iyo ,مقاطعة Ehime, في الجزيرة الجنوبية من اليابان, و بعد تخرجه من المدرسة الإعدادية الزراعية عمل في مكتب جمارك في Yokohama. في 25من عمره, أصيب بالتهاب رئوي حاد و ادخل المستشفى, و
كانت تلك الأيام التي أمضاها وحيدا هناك نقطة التحول في حياته, فحتى بعد مغادرته المستشفى استمر يصارع في داخله مسالة الموت و الحياة. بعد قضائه عدة أيام في حالة نفسية صعبة, و في صبيحة احد الأيام, راودته فكرة:" لا يوجد شيء في هذا العالم. لا يهم ما يحاول الإنسان أن يفعله, فهو لن ينجز أي شيء. كل ما نفكر به أو نحاول أن نعمله هو غير ضروري". هذه كانت ولادة فلسفة فوكووكا "نظرية عدم الحاجة إلى معرفة الإنسان", أو نظرية الـ "mu" 無أي "اللاشيء".
سنستعرض هنا نظرياته بشكل واقعي ملموس و عملي, ففي سنة 1937 قرر العودة إلى قريته التي ولد و نشا فيها, ثم أصبح مزارعا في بستان البرتقال العائد لوالده. في سنة 1939 , و في الوقت الذي بدا وضع اليابان يتدهور في الحرب
العالمية الثانية, بدا العمل في محطة أبحاث علمية زراعية في مقاطعة Kochi كأستاذ و باحث في علوم المزارع, و استمر يعمل هناك حتى نهاية الحرب. في 1947 عاد إلى مدينة Iyo , و استمر هناك بالعمل على نظامه الفريد بالزراعة على الطبيعة.
في 1979 عندما زار أمريكا و رأى أراضي كاليفورنيا المتصحرة, خطرت في باله فكرة, إن طريقته في الزراعة على الطبيعة قد تعمل على جعل تلك المناطق خضراء, فاخذ يزور الجمعيات الأمريكية و يخبر الناس بما تسببه زيادة الرقعة الزراعية و زيادة تربية الماشية و الرعي بالاعتماد على الطرق الحديثة من تصحر في الأراضي. و خلال أحدى جولاته التي كان يتحدث فيها عن
مشروعه و عن التصحر,سأله رئيس قسم محاربة التصحر في الأمم المتحدة ليأخذ منه نصيحة تقنية, تلك كانت نقطة البداية لمشروع فوكووكا لجعل الصحارى خضراء على اتساع العالم, في الصين و الهند و الأمريكتين و أفريقيا.
في 1988 تسلم فوكووكا جائزة Deshikottam و هي جائزة قيمة جدا في الهند, و من الفلبين جائزة Ramon Magsaysay للخدمة العامة و المعروفة بجائزة نوبل الآسيوية. في 1997 تسلم جائزة مجلس الأرض و هي جائزة شرف تمنح للسياسيين
و رجال الأعمال و العلماء و المنظمات غير الحكومية لمساهمتهم في دفع عجلة التقدم. اليوم و في الـ 93 من عمره, تقاعد فوكووكا و هو الآن يعيش حياة هادئة في قريته Iyo, و قد أغلقت حقوله أمام الزوار.
الزراعة على الطبيعة استنادا إلى الفلسفة الروحية:
تبدأ طريقة فوكووكا بالزراعة على الطبيعة بالرفض التام للعلم, إذ يقول في احد كتبه "إن دراستي تعتمد على رفض التقنيات الزراعية المألوفة. أنا ارفض العلم و التقنية تماما. نظريتي تستند على رفض الفلسفة الغربية التي تدعم العلم و التقنية في يومنا هذا." , و يستمر قائلا "إن الزراعة على الطبيعة –في فكري- في الحقيقة هي ليست جزئا من مما يسمى الزراعة العلمية.
أنا أهدف لإنشاء طريقة جديدة للزراعة اعتمادا على وجهة نظر كل من (الفلسفة و الفكر و الدين) المحلية مبتعدا عن إطار الزراعة العلمية.",
انه لا يقدر الطريقة الغربية في التفكير بان الطبيعة وجدت لأجل أن يستعملها البشر, بل التفكير المحلي الذي ينص على أن البشر هم جزء من الطبيعة.
من خلال الزراعة على الطبيعة (أو الزراعة بدون أي جهد) حاول أن يبين أن علم الإنسان ليس مثاليا و لا ضروريا. في كتاب آخر له و عنوانه "The road back to nature" 自然に還る يشير فوكووكا "إن إتباع حمية غير سوية يؤدي في
النتيجة إلى جسم و عقل غير سويين و بالتالي تؤثر في كل شيء, و الجسم السليم يأتي من الغذاء الصحي, و الفكرة السليمة تأتي من الجسم الصحيح.".
اعتبر أن الغذاء أهم عامل مؤثر في حياة الإنسان, و هو لا يزال يردد المصطلح المأخوذ عن البوذية أو التاوية (shindo-fuji)身土不二 في كتبه و التي تعني حرفيا أن الجسم shin و الأرض do غير منفصلين عن بعضيهما fuji,
و يقول أن الإنسان و الطبيعة متحدين مع بعض, فعندما يأكل الإنسان الطعام كل في موسمه و من الذي ينمو في الأرض التي يعيش عليها يصبح جسمه سليما و متناغما مع الطبيعة.
الزراعة على الطبيعة كما يبينها فوكووكا في الوقت الحاضر, معظم المزارعين في اليابان يمارسون الزراعة الكيمائية باستعمال الأسمدة الكيميائية و مبيدات الأعشاب و الحشرات. مؤخرا, و عندما اخذ الناس يولون اهتماما اكبر لسلامة طعامهم حصلت زيادة في عدد المزارعين الذين عمدوا إلى تقليل استعمال كل من المبيدات الحشرية و مبيدات العشب و/أو استعمال الأسمدة العضوية. في الأسواق الآن يستطيع الشخص أن يشتري المنتجات الزراعية التي تحمل العلامة (JAS) التي تدل على أن المنتج عضوي الزراعة و التي تصدر عن Japanese Agricultural Standard للإشارة بان هذا الغذاء أنتج وفق المعايير الدولية, وتعطى شهادة JAS للمنتجات الزراعية القادمة من المزارع التي لم تستعمل فيها الكيمياويات الزراعية و الأسمدة
الكيميائية لأكثر من ثلاث سنوات من حيث المبدأ, و من الممكن استعمال المواد العضوية كالسماد الحيواني.
لكن ماذا عن طريقة فوكووكا في الزراعة على الطبيعة؟ أهي فقط إحدى أنواع الزراعة العضوية؟ فوكووكا يرفض الزراعة المعتمدة على العلم و على معرفة الإنسان, بدلا من ذلك فانه انشأ طريقة للزراعة تتطلب اقل تدخل ممكن من قبل الإنسان . في حين ان الزراعة العضوية التي يستعمل فيها السماد العضوي هي مختلفة تماما عن الذي يطمح إلى إثباته.
يشرح فوكووكا الزراعة على الطبيعة في كتاباته: "يمكننا أن ننتج رزا صحيا و تربة صحية و غنية من دون الحاجة إلى أسمدة و يمكن أن نحصل على تربة يمكنها أن تنتج بدون الحاجة إلى حراثة, فقط إذا تقبلنا حقيقة أن مثل هذا الجهد الزائد, كالحراثة و إضافة الأسمدة العضوية أو الكيميائية أو مبيدات الحشرات ليس ضروريا, تلك طريقة للزراعة طورت ظروفا لا يحتاج الناس فيها
لعمل أي شيء--- هذا ما كنت أسعى إليه. بعد ثلاثين سنة, توصلت أخيرا إلى الطريقة التي اجعل فيها مزرعتي تنتج من دون أي مجهود, في الواقع بالكم الذي تنتجه مزرعة علمية نموذجية من الرز و الحنطة.".
أجرت JFS مقابلة مع مونيو ماتسوموتو الذي كان يجرب أسلوب فوكووكا في الزراعة على الطبيعة في مقاطعة Saitama في ضواحي Tokyo, و وفقا لما يقول إن القليل من المزارعين الآن يمارسون ما يدعون انه (زراعة على الطبيعة)
عبر اليابان كلها, لكنها لا تعني بالضرورة نفس الشيء أي (الزراعة على الطبيعة) إذ لا يوجد لها تعريف لذا كل منهم يحاول على طريقته الخاصة, الكثير منهم تعلم الطريقة الأساسية من فوكووكا ثم قاموا بتحويرها حسب ظروفهم الخاصة, إن طريقة فوكووكا في الزراعة على الطبيعة يمكن وصفها على أنها النموذج الأصلي أو على الأقل هي المصدر لذلك التيار أو التوجه.
إن الأساس في أسلوب فوكووكا للزراعة على الطبيعة هو, لا حراثة (زراعة) و لا أسمدة و لا مبيدات حشرات و لا إزالة عشب, بالرغم من أن فكرة (لا حراثة) قد تكون صعبة القبول من قبل المزارعين الذين اعتادوا الطرق
التقليدية, لكن الأسباب كانت واضحة لماتسوموتو, "الأرض المحروثة سريعة الجفاف" يستمر قائلا, و إضافة الأسمدة حتى الحيوانية منها هي إفراط في حماية النباتات من جهة أخرى فان النباتات التي تنمو من دون أسمدة يمكن أن تنمو قوية و لذيذة. أما بالنسبة إلى عدم إزالة الأدغال, فانه يقطع نباتات العشب عند إزهارها بدلا من قلعها بالكامل, و توضع الأجزاء المقطوعة
منها على الأرض للحفاظ على رطوبة التربة في الصيف و لإبقائها دافئة في الشتاء, في النهاية تتعفن تلك الأجزاء و تتحلل متحولة إلى سماد طبيعي. بل أكثر من ذلك, فان ماتسوموتو نادرا ما يسقي المزروعات لذلك فان الجذور تنمو مبتعدة عن سطح التربة إلى الأسفل بحثا عن الماء, فإذا كان الماء وافرا فان الجذور تكون سطحية و النباتات ضعيفة لسهولة حصولها على الماء.
و عند البذر, ينثر ماتسوموتو خليطا من البذور, ينبت منها ما يلائم ذلك المكان, لذلك فهو لا يستطيع أن يتوقع مسبقا ما الذي سينبت هناك.
إن الذين لا يعرفون أسلوب فوكووكا جيدا قد يجدونه غير مقبول بوجود نباتات تنمو عشوائيا على الأرض, و قد يكرهه المزارعون في الحقول المجاورة بسبب انعدام النظام في الزراعة, إذ تنمو الخضراوات في معظم المزارع في اليابان بخطوط مرتبة, لذا فان الزراعة على الطبيعة قد تكون صعبة القبول و الفهم من قبل أكثر الناس.
إن طريقة للزراعة مثل هذه لا تتطلب حراثة أو تسميد أو إزالة أدغال آو رش مبيدات, قد تبدو سهلة جدا, لكن هي في الواقع ليست كذلك, فباستمرار كان فوكووكا يؤكد في كتبه على أن عبارة (natural) أي على الطبيعة في عنوان أسلوبه الزراعة على الطبيعة (natural farming) تختلف تماما عن معنى عدم التدخل (noninterference), يضيف ماتسوموتو"إن الطبيعة تسير بتلقائية في مجراها الاعتيادي من دون تدخل الإنسان, و إذا ما عبث بها البشر فقد لا تعود بسهولة إلى الحالة التي كانت عليها سابقا إلا بتدخل الإنسان". إن إعادة الطبيعة إلى الحالة الأصلية التي كانت عليها هو أمر صعب و يحتاج بالتأكيد إلى خبراء ليقوموا بذلك. فوكووكا كان قادرا على إنشاء طريقته الخاصة في الزراعة على الطبيعة فقط عن طريق المحاولة و الخطأ ليعيد أراضي
مزرعته إلى حالتها الطبيعية.
إن التسارع في معدل النمو يتطلب توافر النفط و الذي بدوره هو المسبب الأول للنزاعات و الحروب في العالم كله, و في الزراعة التي تعتمد على الكيمياويات فان النفط هو ليس فقط المادة الأولية التي يصنع منها السماد و مبيدات الحشرات بل يستعمل أيضا كوقود لتشغيل الآلات الزراعية, بالمقابل فان الزراعة على الطبيعة لا تتطلب آليات زراعية و لا أسمدة أو مبيدات,
بما أنها لا تعتمد على النفط فهي الطريقة الزراعية الأفضل و الابقى.
تخضير الصحارى باستعمال حبيبات الطين تنص طريقة فوكووكا لزراعة الرز على الطبيعة على "لا-حراثة, الزراعة
مباشرة, زراعة الرز و الشعير سوية" و هو نظام ينمو فيه الرز و الشعير في نفس الحقل بالتبادل على طول السنة من بذور نثرت على ارض غير محروثة. و بما أن البذور المكشوفة قد تأكلها الطيور فقد خرج فوكووكا بفكرة وضع البذور في داخل حبيبات من الطين قبل الزراعة, و يتم عمل حبيبات الطين تلك بصورة عامة عن طريق: 1.مزج الطين و البذور المختلفة مع الماء 2.الضغط على المزيج لإخراج اكبر كم ممكن من الهواء 3.تكوين كرات صغيرة مستديرة 4.تجفيف تلك الكرات لمدة ثلاثة إلى أربعة أيام, و الآن تلك البذور المغلفة بالطين الجاف أصبحت محمية من الطيور و الحشرات على حد سواء و كذلك محمية من الجفاف, إن الشكل الكروي للحبيبات يجعلها صعبة الكسر كما أن الكرات تلك تتصل بالأرض عن طريق مساحة صغيرة حيث تتشكل قطرات الندى بسبب اختلاف الحرارة في الليل عن النهار مما يسهل عملية إنبات الجذور.
لذلك فان حبيبات الطين تلك و التي لا تتطلب سقيا و لا تسميدا هي ملائمة تماما للزراعة في الصحراء إضافة إلى قلة تكاليفها الزراعية و كونها طبيعية.
هنا فوكووكا طلب من الناس جمع البذور و أطلق حملة لجعل الصحارى خضراء باستعمال حبيبات الطين و نجح في عدة أماكن منها اليونان و الهند و تنزانيا و الفلبين و غيرها. و بالرغم من أن فوكووكا الآن قد تقاعد من نشاطات الحملة التي أطلقها بنفسه إلا إنها لا تزال مستمرة في كثير من البلدان. نعم قد تمر سنوات قبل أن نرى ثمرة أتعابنا في صحراء خضراء و حقول من البذور النابتة و النباتات الصغيرة و ... الخضراوات و الأشجار. فانه لمن السهولة تدمير الطبيعة لكن أعادتها قد يستغرق وقتا طويلا و
جهدا.
إعادة الطبيعة ثانية إلى حياتنا
بعد الحرب العالمية الثانية اتسع اقتصاد اليابان و أصبحت بلدا مستوردا للمواد الأولية من كل أنحاء العالم, حتى الطعام بالرغم من أهميته لبقائنا كان يأتي من ابعد نقطة عنا في الكوكب, لكن و عبر هذا التغيير أصبح هناك في اليابان وفرة في المواد الأولية. من ناحية أخرى فان الزراعة بعيدة كل البعد عن حياة معظم الناس في مجتمع اليابان العالي التكنولوجيا.
لا يمكن للإنسانية العيش من دون الطبيعة. و قد اظهر لنا المزارع الفيلسوف فوكووكا أن الزراعة بالاعتماد على الطبيعة تتيح لنا العيش من دون مساعدة التكنولوجيا. و يجب علينا أن نتذكر دائما بان الطبيعة و كل ما هو طبيعي هو في الحقيقة ما يلائم حياتنا. إن نثر البذور لإعادة الطبيعة و الزراعة بالقرب من حياتنا اليومية قد تكون خطوة أولية باتجاه مجتمع دائم متماسك.
------------
صورة فوكووكا في مزرعه
1 Comments:
بارك الله فيك وجزاك الله خيرا
مدونه اكثر من رائعه
ربي يوفقك اخي الفاضل
Post a Comment
<< Home