اليابان

تتناول المدونة ما يتعلق باليابان. ونرحب بتعاون الزوار في تقديم المقالات والأخبار ضمن هذا الإطار وتصحيح الأخطاء اللغوية فيها بالإضافة إلى ترجمات نصوص يابانية أو إنجليزية سنختارها Al-Yaban blog presents articles and news on Japan in Arabic with cooperation of its visitors. アラビア語による日本専門ブログ。投稿歓迎

2006/10/06

تراث الهايكو في الثقافة العربية ...محمد الأسعد

アラビア文化に於ける俳句の遺産

الهايكو الضئيل في الثقافة العربية مدهش وساحر.. ولكن جمالياته غائبة

بدأ القارئ العربي ، والمثقف بخاصة ، بالتعرف على أنماط الشعر الياباني وتقاليده الموروثة منذ وقت قريب لا يتجاوز العقدين تقريباً . وقاده هذا التعرف إلى الياباني الآخر ، ليس صانع المعجزة الإقتصادية فقط بل وإنسان التقاليد الراسخة والمتناغمة مع حداثة الأزمنة ال

تراث حديثة ، وليس ذلك الهمجي الذي قدمته أفلام هوليوود كما لو أنه من شياطين الجحيم الذي تحول إلى كائن مهذب بضربة نووية ، بل الآخر الشاعر الفنان الذي تتواشج في نسيج واحد رؤيته للكون ونهجه الشعري وحياته .

منذ وقت قريبٍ تساءل أحد الكتاب العرب عما نعرفه عن هذا العالم الياباني العجيب وعما نجهل منه ، ودعا إلى التعرّف على آدابٍ ذات مكانة إبداعية أكيدة ، وإلى التخلص من إلزامية شعرية مقيدة لتصوراتنا الشعرية والنقدية ، أي أسس الخطاب الشعري الفرنسي والأنجليزي تحديداً .

جاء هذا في مقالة حول التقليد الشعري الياباني لشربل داغر نشرتها صحيفة الحياة (5/4/ 1996) . هذا جميلٌ بالطبع ، ولكن الأجمل منه أن نتعرف على الحياة الروحية والمادية التي غذت وتغذي هذا التقليد الشعري ، وأن نكتشف المختلف في قلب ما نظنه تماثلا في المشهد الحضاري المعاصر ، وبخاصة مع حضور أناس يحتلون مراكز أكاديمية مهمة ويعملون مستشارين في مشروعات ثقافية بارزة يعتقدون أن المثقف العربي والقارئ بعامة في غنى عن مثل هذه المعرفة ، بل ويقفون سداً أمام محاولات ترجمة شيء من الشعر الياباني بحجة أن أمر هذا الشعر لايهم القارئ العربي ، فيجسدون بذلك جموداً ودفاعاً عما نشأوا عليه من معتقدات لا ترى بين جهات العالم الأربع إلا جهة واحدة هي الجهة الغربية .

ولكن في ما دعا إليه الكاتب العربي خطر أن يأتي هذا التعرف تبسيطاً مبالغاً فيه ، أو تضييقاً لا مبرر له ، حين ننظر إلى الأمور ، كما فعل شربل داغر ، من منظار "عربي" يدفعنا كما دفعه إلى الحديث عن "عمودٍ" موروث في الشعر الياباني ، وعن فن مفروض , وقواعد شرطية تجعله ميدانا لتنافس عقيم يتحقق فيه ، كما في الشعر العربي التقليدي ، "حسن الاتباع" ، أي أن يأتي المتكلم إلى معنى اخترعه غيره فيحسن اتباعه فيه بحيث يستحقه بوجه من وجوه الزيادات التي توجب للمتأخر استحقاق المعنى المتقدم .

كل هذا خضوع للمنظور " العربي " وقياس للأشياء بما تعرفه العين لا بما تتعرف عليه . فالشعر الياباني ، وبخاصة في نمط الهايكو الشهير أكثر من غيره ، ليس أفكاراً بل تجارب ، وتجارب شخصية في أصفى نماذجه ، ولا وجود لــ "عمود" يماثل عمود الشعر العربي المقدس حتى اليوم في هذا الشعر ؛ هنالك جملة أزهار متنوعة ، والأبرز بينها زهرة الهايكو ذات السبعة عشر مقطعاً ، منذ عصر نارا (أقدم عصور هذا الشعر في القرن الثامن الميلادي) . وللشعر الياباني منذ أشكاله المبكرة (الكاتاوتا والسيدوكا والتشاوكا والتانكا) أساس إيقاعي هو على التوالي خمسة مقاطع فسبعة ، وعلى هذا الأساس نهضت الأشكال الشعرية اليابانية ، سواء تلك التي تحددت أعداد سطورها (سطران للكاتاوتا وخمسة للتانكا وثلاثة للهايكو) أو تلك التي لا حدود لأعداد سطورها مثل الرنجا ، أي القصيدة ذات الحلقات التي يشترك في نظمها عدد من الشعراء .

يضاف إلى هذا أن الشعر الياباني ، بل والفن الياباني جملةً ، لايقوم على اختراع المعاني وتوليدها بين متقدم ومتأخر ، بل على أساس تجارب جمالية أداتها التصوير ، أي التشكيل ، وتتنوع هذه التجارب بالضرورة بسبب تنوع المشاهد والأحاسيس والثقافة . ولئن حدث تداول لصورة واحدة أحياناً بين عدة شعراء أو عصور فإن هذا التداول يجري مجرى الحوار لا مجرى الاتباع . صحيح إننا نخرج بأفكار وعواطف من هذا الشعر ، وعلى نحو أقوى وأعمق مما نجد في الثقافات الشعرية الأخرى ، إلا أن هذه الأفكار والعواطف لا تقال مباشرة بل عبر سلسلةٍ من المشاهد والمواقف المتعلق بعضها ببعض ، ولا يصل اليها القارئ إلا عبر حدس شخصي أو عبر ما يوحى إليه إيحاءً . وهذه السمة في الحقيقة من أبرز سمات الفن الياباني في الشعر والتصوير وتنسيق الزهور والحدائق وتعاليم الزن (البوذية اليابانية) . ولم يتقيد الشاعر الياباني بعمود محدّد أو حتى بنسق شعري واحد رغم وحدة الأساس الإيقاعية ، وظل اختراق النسق محترماً مثلما هو التقيد به . ولعل تشديد عقيدة الزن على محدودية الفكر البشري ، ولجوئها إلى استثارة مستويات من الوعي أعلى بإلغاء التفكير التقليدي ومناهجه واعتماد الحدس المباشر ، هو الذي يقف وراء هذه السمة الفنية التي أشرنا اليها آنفاً .

من المخاطر الأخرى التي تنجم عن التقيد بالمنظور الذاتي ، أن يقرأ العربي ملامح " الآخر " في ضوء ما يعرفه عن نفسه وتراثه ، فيقيم تماثلا زائفاً بين معطيات " الأنا " ومعطيات " الآخر " ، فتترجم الظواهر بمصطلحات هذه " الأنا " ، وكأن مصطلحاتها معيار كوني شامل .

يقول " شربل داغر " : " حال الشعر الياباني عندما أصابته صدمة الحداثة مع أوروبا لا تختلف أبداً بل وتساوق ما عرفه الشعر العربي نفسه وضمن الفترة الزمنية نفسها .." . وفي هذا قطعية غير مستساغة ، ليس لأن حال الشعر الياباني يختلف عن حال الشعر العربي أمام "صدمة الحداثة" فقط ، بل ولأن كل المراجع الغربية واليابانية على حد سواء تحدثت عن حالة مختلفة أصاب فيها الشعر الياباني والفن الياباني عموما حداثة الغرب بالصدمة وليس العكس . ما يحجب رؤية الإختلاف هنا هو الإطار الذهني العام الذي أوهم الناس في بلادنا العربية أن " صدمة الحداثة " الغربية قادت إلى النتائج نفسها في كل مكان وصلت إليه ، وهو ما لم يحدث في الحالة اليابانية وفي الفن تحديداً . لقد كان لليابان خصوصيات ثقافية وتاريخية ودينية مختلفة جوهرياً عما ألفناه في ثقافة مغرمة بالتعميم ، ثقافة لا تستطيع فهم الظواهر بذاتها ولذاتها بلا تشبيه ولا تمثيل ، ومازالت تدرج " الآخر " في منظومتها المعرفية بمساعدة تقاليد في القول والنظر ثابتة ومتحجرة .

* * * * *

منذ عقدين تقريباً بدأ القارئ العربي بالتعرف على شيء من هذا الشعر ، وبخاصة ما يعرف منه باسم قصيدة الهايكو . ومن المشكوك فيه أن تكون ترجمة كتاب " البوشيدو " إلى العربية في العام 1938 ، والذي قدم لأول مرة في العربية عرضاً لمكونات الثقافة اليابانية الموروثة ، قد أثارت اهتماماً في الأوساط العربية بالشعر الياباني أو بأخلاق وقيم هذا المجتمع النائي ، في وقت كانت فيه كل أجهزة التلقط العربية موجهة نحو الفضاء الغربي .

في أواخر السبعينات أقدمت مجلة "عالم الفكر" الكويتية على نشر دراسة في الشعر الياباني كتبها " دونالد كين " (العدد الخاص بالشعر ،1979) ، ثم ظهر مقال مترجم في مجلة " الثقافة الأجنبية " العراقية تحت عنوان "الشعر الياباني الحديث" (عدد رقم 1 ، 1980) يعتذر فيه المترجم عن ترجمة القسم الأول من هذه الدراسة الذي يتناول جذور اللغة اليابانية وعروضها ، وكذلك عن القسم الثاني الذي يتناول تاريخ موضوعات وأساليب الشعر الياباني ، فحرم القارئ العربي من معرفة السياق التاريخي لهذا الشعر ، وأصبح من المحال أن يفهم ما يقرأ من مصطلحات وتعابير. مثلا حين يقول الباحث صاحب المقالة الأصلي : " ... وأوصى أيضاً بالأسلوب الصريح المباشر لمانيوشو على كوكنشو " ، من يستطيع معرفة أن الإشارة هي إلى أسلوبين شعريين استخدما في كتابي المختارات الشعرية "مانيوشو" و "كوكنشو" ؟.

وفي الثمانينات أيضاً نشرت " الثقافة الأجنبية " نفسها الأعمال الكاملة للشاعر الياباني الأشهر بين شعراء الهايكو "ماتسو باشو" مترجمةً عن الروسية على يد الشاعر "حسب الشيخ جعفر" (العدد 1 ، 1985) ، وقدمت مجلة "الآداب الأجنبية" السورية عدداً ضافياً من قصائد الهايكو قام بترجمتها "عدنان بغجاتي" (أيار ،1981) وطبعت لاحقاً في كتاب أصدرته وزارة الإعلام العراقية ، إلا أن هذه الترجمة خلت من مقدمة ذات أهمية ، شأنها في ذلك شأن ترجمة "حسب الشيخ جعفر" ، واكتفى المترجمان بتقديم لمحات سريعة وغير دقيقة عن طبيعة الهايكو وتقاليدها .

ونلاحظ في هذا السياق أن بعضهم حاول كتابة "هايكو عربية" ، ومن هؤلاء د. شاكر مطلق الذي نشر محاولته في مجلة " الآداب الأجنبية " (العدد 37 ،1983) ، وكانت محاولة ضعيفة إلى حد بالغ ، إذ لم يتوفر لدى صاحبها كما يبدو وعي كاف بأساليب الهايكو اليابانية ، سواء في ما يتعلق بوحدة سطورها الثلاثة عضوياً أو ابتعادها عن التجريد والتشبيه والأفكار المباشرة أو اعتمادها على التشكيل ، وهو سمتها الأساسية في تجسيد العواطف والأفكار . وسيتكرر هذا الضعف إلى حد ما لدى الشاعرة الكويتية "شروق أمين" التي نشرت قصائد هايكو بالإنجليزية في مجموعتها "فراشة كويتية بلا حجاب" (1993) .

في السنوات القليلة الماضية أظهرت بعض الصحف اليومية اهتماماً بالهايكو وتراثها ، فقدمت " الحياة " في 12/5/1996 ترجمات عن الإنجليزية ، وقدمت " النهار " في ملحقها الثقافي في 7 آذار1998 مجموعة من قصائد الهايكو ذات الطابع الشبقي ، وأخيراً أصدر المجمع الثقافي في أبوظبي مجموعة هايكو في خطوة بدت مفاجئة للمترجم " صلاح صلاح " (يناير ،1997) . ويلاحظ على هذه الترجمات الصحفية أنها أغفلت الإشارة إلى المناخ الروحي الذي تنبع منه ثقافة أهم شعراء الهايكو الكلاسيكيين ومعظمهم من الرهبان ، ووصف بعضها تكوين الهايكو بصفات عجيبة وغريبة عن روحها ، فكتب بعض أصحاب هذه الترجمات انها تستهدف تمويه المشاعر والعواطف ! وهو ظن بعيد تماماً عن الأنضباط والدقة والموضوعية ووحدة أنا الشاعر بموضوع التجربة ، وبعيد عن تلمس قصد رؤية العالم من منظور وحدة وتناغم عناصر الوجود ، أي كل ما هو مناسب لفهم هذا النمط الشعري.

* * * * *

معظم ما قدّم حتى الآن في العربية من قصائد الهايكو جاء عبر اللغة الإنجليزية ، وهي لغة توفر فيها دارسون للثقافة اليابانية منذ وقت مبكر من القرن العشرين . وقدم هؤلاء إلى القارئ الغربي الثقافة اليابانية بجوانبها الدينية والأدبية والإجتماعية والسياسية مع شروحات وافية ، وهو أمر لم يتوفر في الثقافة العربية ، فظلت تمتلك عن كل ما هو ياباني صورة عامة مبسطة تقدمها التقارير الصحافية الضحلة . وحين جاءت المقاربة العربية للجانب الأدبي ، جاءت متأخرة ومدفوعة باهتمام غربي وبدوافع تجارية بحتة لا علاقة لها بالإهتمام المعرفي . فمع أخبار فوز " ياسوناري كاواباتا " بجائزة نوبل ثم انتحاره ، وانتحار " يوكيو ميشيما " ، والإشادة بالروائي " جونشيرو تانازاكي " صاحب " مديح الظلال " و " ويوميات هرم مجنون " و " حبان طاغيان " ، بدأت دور النشر العربية تلتفت إلى الأدب الياباني والروائي منه أولا .

اليابان بالنسبة لنا ما تزال رجل الأعمال والمعجزة اليابانية ونهضة الميجي المدهشة ، على الأقل بالنسبة للعاجزين عن الوصول إلى تفسير واقعي أو المتمسكين حتى الآن بتعابير " المعجزة " و " ضربة الحظ السماوية " . واليابان ماتزال تتراءى عبر صفحات ألف ليلة وليلة في نظر الكثيرين الذين مازالوا يعتقدون أنها هي أرض " الواق واق " الخرافية ، ويختلفون حول أصل هذه التسمية.

في جو هذه المقاربة الساذجة والبدائية لابد من حدوث أخطاء في الفهم ، أو سوء تأويل ، مادام السياق غائباً . ومن أبرز هذه الأخطاء التي صادفتنا ، المماثلة بين حال الشعر العربي والشعر الياباني أمام صدمة الحداثة الغربية .

الشعر الياباني في الحقيقة ، أو نمط التفكير الياباني بعامة ، هو الذي صدم الغرب وجعل أبرز مدارس التجدد الشعري في الغرب تعيد النظر في مفاهيمها الشعرية ذاتها في ضوء الشعرية اليابانية الماثلة في أنماط مثل الهايكو والتانكا ، وهو مالم يحدث في الشعر العربي الذي أعاد المجددون فيه النظر في مفاهيمهم في ضوء الشعرية الغربية ، وخضعوا زمنا طويلا للإلزامات التي أشار إليها شربل داغر .

في هذا السياق قادت دراسة الشعر الياباني والصيني من قبل المخرج السينمائي " سيرجي ايزنشتاين " إلى ابتكار فن المونتاج ، أي التقطيع والتركيب ، وكان هذا أمراً بالغ الجدة . وحين صدر في أوائل القرن العشرين كتاب " الحروف التصويرية الصينية كوسيط شعري " (1908) للباحث " ارنست فينلوزا " ، لم يكن هذا الكتاب تقديما لطرفة غريبة بل كان دراسة في المبادئ الجمالية الأساسية لهذا الفن الذي يعتمد الكتابة التصويرية (واليابانية مشتقة منها) . واستطاع هذا الباحث بدراسته لفن غير معروف أن يضيء مبادئ وحوافز فنية مجهولة في الغرب .

على صعيد قصيدة الهايكو ، يعود تأثير هذه القصيدة في الشعر الغربي إلى سنوات ما قبل الحرب العالمية الأولى مع بدايات ظهور مدرسة " التصويريين" في بريطانيا وأميريكا على حد سواء ، ولم يفلت من هذا التأثير شعراء من أمثال " باوند " و " آمي لويل " واتباعهما . عن هذا التاثير يقول " جلن هيوز " : " من الصعب أن نتوقع إفلات شاعرٍ ذي اهتمامات تجريبية واسعة من تأثير الشعراء اليابانيين ..فقصائد التانكا والهوكو الصغيرة المميزة والمحتشدة بالإيحاء والمتضمنة لجوهر المخيلة الصافية والمكثفة تجتذب الشاعر التصويري " . ولم يكتب التصويريون الذين بعثوا الحيوية في الشعر الغربي قصائد هايكو بالإنجليزية فقط ، في تقليد متعمد للشعراء اليابانيين وبحثاً عن شكل أكثر صلابة يخلصهم من أشكال العصر الفكتوري ، بل وتبنوا الرؤية اليابانية إلى فن الشعر . وهذا واضح في بيان المدرسة التصويرية الذي يشدّد على استخدام الصورة البصرية (جماع الفكر والعاطفة في لمحة حسب تعبير أزرا باوند) وعلى استخدام لغة الحديث اليومي والتركيز وخلق ايقاعات جديدة خارجة على الإيقاعات المتوارثة (الشعر الأمريكي ، إعداد جيوفري مور، طبعة بنغوين ، 1985) .

* * * * *

في نصوص الهايكو المترجمة إلى العربية ، لاحظنا أخطاءً يمكننا إرجاع مصدرها إلى عنصرين ؛ الأول ، إن الذين نقلوها إلى الإنجليزية كانوا باحثين لا شعراء من أمثال دونالد كين وتشامبرلين ، ولهذا أهملوا الحفاظ على التركيب الإيقاعي الأصلي للهايكو ، وتصرفوا فأدخلوا كلمات مفسرة أحيانا لأن الهدف كان التعريف في البداية بشعر حاروا في أمره . ويتضح هذا في حديثهم عن الهايكو بوصفها " أمثولة " أو " مقولة حكمة " ! للوهلة الأولى .

العنصر الثاني هو غرابة هذا النمط بالنسبة لتقاليد الشعرية العربية التي تجوهر الشعر في مفاهيم التشبيه والاستعارة ، بينما لا تعرف الهايكو هذين المرتكزين ، وتقيم أساسها في أرضية أخرى ؛ في تصوير الشيء بذاته لا بما يشبه أو يناظر أو يعادل . وتضيف اللغة اليابانية غرابةً حين تغفل أدوات الربط والوصل وزمن الفعل وتمييز المثنى عن المفرد أو الجمع .

وهكذا يقع المترجم العربي بين حدّين ؛ حد غياب السياق الثقافي للنص الذي يترجمه ، وحد عاداته ومفاهيمه العربية ، فنجد بين أيدينا "هايكو" تم اخضاعها للذائقة العربية لا "هايكو" يابانية نتذوقها وتفتح أمامنا أفقاً مغايرأً وجديداً . وستظل هذه المشكلة قائمة إلى أن يظهر من يترجم عن اليابانية مباشرةً، ذو وعي بالسياق الثقافي الذي أنتجت هذه القصيدة فيه ، وذو حساسية شعرية استثنائية .

جاء في ترجمة لقصيدة من قصائد " باشو " على يد " كينيث ياسودا " الأولى بالثقة بسبب أصوله اليابانية ولكونه شاعراً من شعراء هذه القصيدة :

لا أحد راحلٌ
هنا على امتداد الطريق سواي
في مساء هذا الخريف

ولاشك أن القارئ سيصاب بالحيرة حين يقرأ هذا النص ذاته مترجماً على يد " عدنان بغجاتي " هكذا :

في طرق ٍ مهجورة
يمشي
هذا الشاعر الوحيد
عابراً عتمة الخريف

فهنا نلاحظ أن المترجم العربي أهمل واقعة أن هذه الهايكو تجري مقطعياً على ثلاثة سطور ، ربما بسبب اعتماده على مترجم انجليزي ، وجعل ضمير الفاعل " هو " ، وأضاف كلمتين لا أصل لهما في النص هما " مهجورة " وعتمة " مغفلا أن ظل الشاعر المتحرك وحده يوحي بأن الطريق مهجورة ، وأن مساء الخريف يكفي للإيحاء بالعتمة ، والأكثر أهمية أن الإيحاء مبدأ مهم من مبادئ الجمال اليابانية .

وحدث ما يشبه هذا مع قصيدة أخرى ترجمها " ياسودا " هكذا :

يا لتلك القيلولات !
حين تضغط قدماي برهبة
على الجدار

فأصبحت في ترجمة على يد " فوزي محيدلي " :

يا لبرودة الجو
قيلولة الظهيرة مع
إسناد كعبيّ على الحائط

ولاشك أنه أمر لا يمت للتركيب الشعري بصلة أن نقرأ هايكو مترجمة هكذا :

كم هائجٌ هذا البحر
وممتدة فوق جزيرة سادو
المجرة

بينما يقدمها لنا المترجم الياباني مثلما تقدم لوحة تشكيلية :

متوحشٌ البحر الهائج
وعالياً حتى جزيرة سادو
تمتدّ المجرة

ويبدو أن الأمر نفسه يحدث دائماً حين يفتقر المترجم إلى موهبة الإحساس بالنبضة الشعرية في قصيدة الهايكو ، وأن أي خلل في تركيبها الإيقاعي (تدويرها) يحولها إلى عبارة خالية من الطاقة التشكيلية والإيحائية ، وهذا هو ما حدث مع المترجم الإنجليزي تشامبرلين حين قدم قصيدة مدهشة في سطرين ضيع فيهما كل ما هو مدهش ، فجاءت هكذا :

زهرة ساقطة عائدة إلى الغصن
انظر .. إنها فراشة !

بينما هي في ترجمة " ياسودا "، وإلى الإنجليزية أيضاً ، تحافظ على تركيبها المدهش ، أو على قدر كبير من الإستبصار الذي حملته في الأصل ، فنقرأها هكذا :

ما ظننتها زهرة ساقطة
ترفرف عائدة ً إلى الغصن
كانت فراشة .
* شاعر وناقد وروائي فلسطيني مقيم في الكويت

http://www.ofouq.com/today/modules.php?name=News&file=article&sid=1215

ثقافة السبت 01 مايو 2004

4 Comments:

At 3:30 PM, October 25, 2007, Anonymous Anonymous said...

متى اتقن اللغة اليابانية لأتمكن من قراءة الهايكو واستمتع به؟

 
At 2:05 PM, September 23, 2010, Blogger Hezam said...

يالجمال الهايكو !!
يا الله ليتني أتقن اللغة اليابانية لأستمتع بهذا الجمال الأخاذ

سوف أبحث عن الترجمات الصحيحة للهايكو
شكراً أستاذ سايتو ,,,شكراً جزيلاً لك على هذا الموضوع

أعجبني هذا المقطع:
لا أحد راحلٌ
هنا على امتداد الطريق سواي
في مساء هذا الخريف

وهذا:
ما ظننتها زهرة ساقطة
ترفرف عائدة ً إلى الغصن
كانت فراشة .

 
At 7:41 PM, July 20, 2011, Blogger Ashraf said...

السلام عليكم هناك حاليا كتاب أشعار أوجورا المائة مترجما الى العربية للدكتور أحمد فتحى مصطفى بمصر

 
At 8:11 PM, July 20, 2011, Blogger Ashraf said...

و هناك أيضا قاموس الجسر عربى يابانى و العكس عامية مصرية
www.algesr.jp.pn
or
www.algesr.net.tf
و كذلك صفحته على الفيس بوك بكتابة (قاموس الجسر)

 

Post a Comment

<< Home